لم يمرّ أسبوع واحد على الوساطة الفرنسية مع دول الخليج حول لبنان، حتى ظهر "لغم" جديد على الخط، تولّت هذه المرّة سلطات البحرين تظهيره، من خلال بيان أصدرته خارجيته، التي أرسلت للسلطات الرسمية مذكّرة احتجاج "شديدة اللهجة" على ما وصفته بـ"الخطوة غير الودية" التي اتخذها الجانب اللبنانية، باستضافة مؤتمر صحافي لـ"عناصر معادية".
جاءت "شكوى" البحرين على خلفية مؤتمر عقدته جمعية "الوفاق" البحرينية المعارضة في العاصمة اللبنانية بيروت، وأطلقت خلالها "التقرير الحقوقي" الذي تضمّن اتهامات مباشرة للنظام القائم بممارسة "انتهاكات حقوقية"، من بينها اعتقال الآلاف في البحرين بشكل تعسفي، وإصدار الأحكام "المسيّسة"، وتعذيب الموقوفين بشتّى الوسائل.
وإذا كانت الشكوى أعادت طرح "إشكاليّة" العلاقة بين لبنان ودول الخليج على مصراعيها، مع التفاوت في وجهات النظر إزاءها من جديد، فإنّها جاءت في سياق "حسّاس"، بعدما سلكت "مبادرة" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طريقها، وعلى وقع الجولة الخليجية التي قام بها ولي العهد السعودي، والتي اعتُبِرت ممّهِدة لقمّة دول مجلس التعاون الخليجي.
ولعلّ البيانات "المستنسخة" التي تمخّضت عن الجولة، والتي صدرت في مختلف العواصم الخليجية التي زارها بن سلمان، وحضر لبنان "ضيفًا ثابتًا" على "موائدها"، عزّزت الاعتقاد باحتمال ولادة "مبادرة خليجية" جديدة إزاء لبنان، فما حقيقة هذا الأمر؟ وأين يقف الخليج اليوم إزاء لبنان؟ وهل صحيح أنّ "شكوى" البحرين أعادت الأمور إلى نقطة الصفر؟.
قبل التوقف مليًا عند الشكوى "المستجدّة" للمنامة، والتي أثارت الكثير من التكهّنات والالتباسات، قد يكون من المفيد وضع الأمور في سياقها "الموضوعيّ" زمانيًا ومكانيًا، فهي جاءت بعد ساعات فقط على زيارة ولي العهد السعودي إلى البحرين، في سياق جولة خليجية، قادته خلال أقلّ من أسبوع إلى كلّ من الإمارات وقطر وعُمان والكويت، حيث صدرت بيانات شاملة، "تقاطعت" في شقّها اللبنانيّ عند بندين أساسيّين، هما وجوب إجراء إصلاحات متكاملة ثانيًا، وضمان ألا يكون لبنان منطلقًا لأي أعمال "إرهابية"، أو حاضنة لأيّ جماعات "متطرفة".
صحيح أنّ جولة وليّ العهد السعودي جاءت، وفق معظم التقديرات، لتنسيق المواقف وترتيب الأوراق قبل قمة دول مجلس التعاون الخليجي، لكنّها جاءت أيضًا بعد زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى السعودية، وتأمينه الاتصال "الشهير" بين ولي العهد ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، ما جعل كثيرين يعتقدون أنّ الملفّ اللبناني كان أساسيًا على خطّها، وأنّ الحديث دار في مختلف العواصم حول "مبادرة ما" قد تشكّل القمّة الخليجية المرتقبة فرصة لتظهيرها، وقوامها العودة خطوة إلى الوراء، ووقف "القطيعة الدبلوماسية" بين دول الخليج ولبنان.
ومع أنّ بعض "الإشاعات" وجدت طريقها إلى التداول خلال الأسبوع الماضي، رافعة سقف "التوقعات" لحدّ الحديث عن "دعوة" ستصل إلى رئيس الحكومة اللبنانية لزيارة المملكة العربية السعودية، إلا أنّ الأمور على الأرض لم توحِ بذلك، علمًا أنّ مناخ "التشاؤم" بقي غالبًا، في سياق ما سُمّيت بـ"الشروط التعجيزية" التي تضمّنها البيان السعودي الفرنسي، وتبنّته الأطراف الخليجية المختلفة، فضلاً عن "مبدأ" الإصلاحات الذي كرّسته كلّ البيانات، في حين لا تزال الحكومة اللبنانية معطّلة ومشلولة وعاجزة عن مجرد الاجتماع.
وقبل أن يظهر "خير" الإشاعات والتسريبات من "شرّها"، جاء التطور المستجدّ من جانب البحرين ليعيد "خلط الأوراق" عن بكرة أبيها، ويطرح الكثير من الهواجس، حيث رأى البعض أنّه "مفتعَل" إلى حدّ كبير، باعتبار أنّ المؤتمر الذي تشكو المنامة منه ليس الأول من نوعه، وقد دأبت جمعية "الوفاق" وغيرها من فصائل المعارضة البحرينية على عقد المؤتمرات والندوات في بيروت منذ سنوات، بل إنّ بعضها تتّخذ من العاصمة اللبنانية مقرًّا لها، بعلم وإدراك كلّ الجهات المعنيّة في الدولتين اللبنانية والبحرينية.
ولأنّ هذا الأمر لم يتسبّب سابقًا بأيّ ضجة أو إشكاليّة، أثار الأمر "التباسًا" حول ما إذا كان في الأمر "إنّ"، بمعنى أنّه مجرّد "اختلاق" لأزمة، لتبرير استمرار "التوتير" ربما، في مقابل وجهة نظر أخرى اعتبرت أنّ الأمر محاولة لفرضة "قواعد اشتباك" جديدة، إن جاز التعبير، وبالتالي لرسم ملامح العلاقة "الجديدة" بين لبنان ودول الخليج، والضوابط والحدود المرسومة لها، ومن بينها عدم السماح لأيّ "معارضة" لها من قلب بيروت.
وإذا كان ثمّة من يرى الأمر "طبيعيًا ومنطقيًا" بعدما فرضت دول الخليج على الوزير جورج قرداحي استقالته على خلفية تصريحات اعتبرتها "مسيئة" لها، ما سيجعلها تفرض "إيقاعها" في المرحلة المقبلة، فإنّ هناك من يرى أنّ "كلمة السرّ" تبقى في "التوقيت" الذي ينطوي على "حساسية مفرطة"، وبالتالي كان لزامًا على القوى التي ترى نفسها في موقع "الخصومة" مع الخليج، والمحسوبة بشكل رئيسي على "حزب الله"، أن تحافظ على حدّ أدنى من "الهدنة الإعلامية" في هذه المرحلة، أقلّه حتى تثبيت "التهدئة".
ويتوقّف البعض عند طريقة التعاطي اللبناني الرسمية مع الأمر، حيث سارع رئيس الحكومة إلى إدانة "التطاول" على البحرين وسواها من دول الخليج، فيما تحرّك وزير الداخلية فورًا، متعهّدًا باتخاذ "الإجراءات" بحقّ من يثبت أنه "أساء" إلى دولة البحرين، وهو نهج أثار بدوره انقسامًا داخليًا، بين مؤيّد لـ"الاحتواء اللبناني السريع"، وبين رافض لمنطق "الخضوع والاستسلام" الذي لا يتناسب مع المنطق "الديمقراطي".
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ العلاقة بين لبنان ودول الخليج ستبقى "إشكاليّة" في المرحلة المقبلة، مرحلة قد تحمل بعض "الانفراجات" المحدودة، وربما المضبوطة، على وقع المبادرة الفرنسية أو غيرها، لكنّه لن تنطوي بالتأكيد على "تطبيع كامل" للعلاقات، أقلّه بانتظار الانتخابات المقبلة، التي "تراهن" عليها بعض القوى الخارجية لإحداث "التغيير الجذري" في المعادلات السياسية، ما يجعل "الترقب" سيد الموقف إلى ما بعدها!.