كلام كثير قاله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن مجمل الاوضاع، حدد فيه موقفه من الاوضاع الراهنة على الصعد كافة، الا ان البارز كان ما قاله عن العلاقة مع الافرقاء في الداخل والخارج على حد سواء. ورأى الكثيرون في الكلام الصادر عن عون في هذا السياق، انه يكاد يكون وحيداً بالفعل في الساحة، لسبب او لآخر، ايّ بمعنى آخر اما بسبب افتراق الآخرين عنه او بسبب اختلاف في خطه السياسي. وعلى الرغم من انه اكد ان التفاهم قائم بينه وبين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الا ان "المناكفات" لا تحتاج الى الكثير من التحرّي والتدقيق لاكتشافها بين الرجلين حول مسائل اساسية عديدة، لكنها لم ترق حتماً الى درجة الخلاف، اما الحديث عن باقي الاطراف فشأن آخر.
فقد وصف عون علاقته بحزب الله بطريقة "دبلوماسية"، ما يؤشّر الى وجود ضباب كثيف في العلاقة، ان لم يكن غيوم سوداء تحوم في سمائها. ولم يسعف رئيس الجمهورية استخدامه لمصطلح "الاصدقاء" للتخفيف من حدّة هذا التوتر، لكنه "عوّضه" بالكلام عن المشكلة القضائيّة واعاقتها لمعاودة اجتماع مجلس الوزراء، حيث لم يعد يخفي رغبته في التئام المجلس بمن حضر، ولو قاطعه الحزب وحركة امل. هذا التغيير بدا غريباً لانّ عون لم يعتد الحديث علناً عن الخلافات والتباعد مع الحزب، حتى ولو وجدت، وقد فسّر البعض هذا التوجّه الى الكلفة الباهظة التي دفعها عون بسبب خطه السياسي، والتي أدّت الى تعكير صفو علاقاته الخارجيّة وبالاخص مع فرنسا، وهنا نصل الى بيت القصيد. فقد شنّ عون حملة على الدول الخارجيّة من دون ان يسمّي اي دولة بالاسم، ولكن بدا واضحاً انه كان يملك عتباً اكثر من اللازم على فرنسا عموماً ورئيسها ايمانويل ماكرون بشكل خاص، بحكم علاقة الصداقة التي كانت تربطهما قبل وصول الاثنين الى سدّة الرئاسة. وحتى الامس القريب، كان ماكرون يحرص على المحافظة على مكانة عون، لكنه تجاهل هذا الامر تماماً في الفترة الاخيرة، وباتت انظاره تتجه حصراً الى موقع رئاسة الحكومة حيث الانسجام التام مع ميقاتي، ودفاع الرئيس الفرنسي كما لو كان "ابنه المدلل". لذلك، اطلق عون شكوكه بالنسبة الى وصول الاموال الدوليّة الى الشعب مباشرة، وهو على صواب في شقّ من الموضوع، انمّا في المقابل، هو نفسه يعترف بوجود فساد وهدر داخل السلطة اللبنانيّة ومن يحمي المرتكبين والفاسدين (وقصد بشكل واضح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من دون ان يسمّيه بالاسم)، فكيف يتوقع ان تساعد الدول سلطة غير قادرة على تنقية نفسها؟ مع العلم ان هذه الدول نفسها لم تكن تتوقف عند هذا العائق منذ عقود من الزمن، بل رسّخته وغذّته الى ان اصبح اكبر من ان يتم اخفاؤه او التستّر عليه، فتبرّأت منه.
أدرك عون انه، مع بدء العد العكسي لنهاية العهد، لم يعد "الرئيس القوي" الذي اتى على صهوة جواد التوافق المحلي والخارجي، وانه مع بدء السنة الاخيرة للولاية الرئاسية، بدأت الاطراف تبحث عن سواه وتبتعد عنه، لذلك تراه يتمسك بما تمكن من تحقيقه في السابق وخصوصاً لجهة اقرار قانون الانتخاب، والتحقيق الجنائي المالي، وقوانين التنقيب عن الغاز والنقط... فحدد بذلك موقفه من الداخل والخارج، وهو انه غير مهتم بمن سيقف معه او سيتخلى عنه، وهو عزم على البقاء في منصبه حتى نهاية الولاية، ومقتنع تماماً بأنّه لا تمديد ولا تجديد، مهما كانت الظروف، ولا يمانع ذلك طالما انه سيتمّم ولايته حتى اللحظة الاخيرة، ويحدوه الامل ان تسفر الانتخابات النيابية المقبلة عن نتائج جيّدة ومقبولة لتياره السياسي الذي تخلّى عن رئاسته ايّ "التيار الوطني الحر"، ليبقى "ارثه" السياسي حاضراً ولا ينضم الى قافلة العمادين اميل لحود وميشال سليمان الغائبان عن الساحة السياسية والشعبية.