طوال الأشهر الماضية، كان الحديث في الأوساط اللبنانية عن إنسحاب المملكة العربية السعودية من هذه الساحة، الأمر الذي يُفسر عدم تعاونها مع المبادرة التي قامت بها كل من الولايات المتحدة وفرنسا، خلال مرحلة تكليف رئيس الحكومة سعد الحريري، لكن في الوقت الراهن يبدو أن هناك ما يتغيّر على هذا الصعيد، حيث يحضر هذا الملف في معظم مواقف المسؤولين السعوديين وتحركاتهم السياسية.
في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أنّ الأزمة الدبلوماسية، التي اندلعت بعد تصريحات وزير الإعلام السابق جورج قرداحي، كانت الحدّ الفاصل بين مرحلتين، لا سيّما بعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرياض، التي جاءت بالتزامن مع تقديم قرداحي إستقالته من الحكومة.
منذ ذلك الوقت، يمكن الحديث عن مجموعة من المؤشّرات التي تؤكّد أنّ السعوديّة انتقلت من مرحلة عدم الإهتمام إلى مرحلة جديدة، تقوم على أساس رفع السقف إلى الحدود القصوى للحصول على أفضل ثمن ممكن، الأمر الذي من المفترض أن يترجم في المرحلة التي تلي موعد الإنتخابات النيابية المقبلة، مع العلم أنّ الرياض لن تكون بعيدة عنها بأيّ شكل من الأشكال.
بعد الإتصال الثلاثي، بين ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، حرص الثاني، خلال الجولة التي قام بها على باقي الدول الخليجيّة، على أن يكون لبنان من ضمن بنود لقاءات القمم التي عقدت، بالرغم من إختلاف اللهجة التي ورد فيها ضمن البيانات التي صدرت، ولاحقاً خلال البيان الذي الصدر عن القمة الخليجيّة، ما يؤشر على أنّ الرياض تريد أن تفتح هذا الملف.
لاحقاً، برزت إلى الواجهة زيارة كل من الوزير السابق ملحم الرياشي (حزب القوات اللبنانية) وعضو "اللقاء الديمقراطي" النائب وائل أبو فاعور (الحزب التقدمي الإشتراكي) إلى السعودية، بعد أيام قليلة من إرسال رئيسي الحزبين سمير جعجع ووليد جنبلاط إشارات عن الرغبة في خوض الإنتخابات النّيابية معاً، بالتزامن مع الحديث عن مساعي المملكة لإعادة لملمة صفوف حلفائها على الساحة اللبنانية.
ضمن هذه التركيبة قد تكون الورقة السنّية هي الغائب الأبرز عن المشهد، بالرغم من أنّ الرياض تعدّ تاريخياً، تحديداً منذ توقيع إتفاق الطائف، الراعي الرسمي لها، الأمر الذي يفسر عدم الوضوح بالنسبة إلى كيفيّة تعامل تيار "المستقبل" مع الإستحقاق الإنتخابي، لا بل الحديث المتكرر عن إحتمال غيابه عنه بسبب الواقع الذي يمرّ به رئيسه، ما يعني ترك الساحة إلى من قد يستطيع أن يبني زعامته على الفراغ الذي سيتركه الحريري.
من حيث المبدأ، يمكن الجزم بأنّ الأمرين متناقضين إلى حدّ بعيد، نظراً إلى أن الحركة التي تقوم بها السعودية، التي هي في طور إعادة تموضعها في لبنان بعد أن اقتنعت أن ترك الساحة لن يكون مفيداً لها، لا يمكن أن تتزامن مع تجاهل الورقة السنية، خصوصاً أنها بوابتها الأساسية إلى لبنان.
ما تقدم يقود إلى الحديث عن أن ما تقوم به الرياض، في الوقت الراهن، هو تحديد السقف السياسي، الذي من المفترض أن تبني علاقاتها مع الأفرقاء اللبنانيين الراغبين بالتحالف معها على أساسه الأمر الذي يفسّر المواقف التي تصدر عن بعض القوى والشخصيّات السنية التي كانت تتهم قبل سنوات بأنّها مقربة من "حزب الله".
في المحصّلة، الحراك السعودي سيتظهر بشكل أوضح في الفترة المقبلة، خصوصاً على الساحة السنية، نظراً إلى أنها لا يمكن أن تغيب عن المشهد الإنتخابي المفصلي، الأمر الذي سيسعى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى تقديم المزيد من الأوراق إلى المملكة، بالرغم من أنه يدرك جيداً أنها قد تقود إلى تفجير حكومته، بينما الرياض لن تكتفي بالمواقف فقط.