بعد إعلان البطريرك الماروني منذ أشهر مبادرة حل سياسي ارتكزت على مبدأ حياد لبنان، أطلقت «مجموعة أورا» قبل أيام مبادرة مشروع سياسي باسم «لبنانيون من أجل الكيان» يتضمن «خارطة طريق نحو بناء الدولة العادلة القادرة على ادارة المجتمع اللبناني التعددي الديمقراطيّ». بعض المشاريع الأخرى تقترح تطبيق نظام لامركزي موسع.
هي طروحات نابعة عن قناعة عند الجميع في لبنان، وعلى الأرجح في الخارج أيضا، بأن النظام السياسي القائم قد سقط، وأنه لم يعد قابلا للحياة لا بل بات مصدر أزمات متلاحقة. لم تعد أيّ انتخابات تجري وفقا للدستور والقانون. لم يعد تشكيل الحكومات ممكنا بسهولة. تعطّل عمل المؤسسات لا سيما السلطات من تشريعية وتنفيذية وقضائية، والتي باتت متداخلة فيما بينها بطريقة فوضوية. الفراغ في الحكم بات فاقعا، وباتت الدولة في حال شلل.
أما صيغة التعايش بين الطوائف التي ميّزت لبنان، ونادى بها كثيرون نموذجا حضاريا للتعايش بين المجموعات الطائفية، والتي كانت وراء نظامه السياسي الحر والمنفتح والتعددي، وهي ميثاق 43 الذي قام أساسا بشكل تفاهم مسيحي إسلامي على تقاسم السلطة بين الطوائف الرئيسية، فقد سقطت نهائيا عام 1975 ليس لأنها كانت فاشلة، فهي أعطت لبنان واللبنانيين أفضل سنوات الاستقرار والازدهار، بل لأن الحرّية التي كان يسمح بها النظام اللبناني كانت أكبر من قدرة النظام التعددي والطائفي على الاحتمال، وبسبب عدم امتلاك الحكام والمسؤولين الحكمة الكافية لحل الازمات بالحوار بدءا من المرحلة التي تلت عهد الرئيس فؤاد شهاب.
مع سقوط الصيغة انفتح الباب امام أنظمة عربية وأجنبية بمن فيها إسرائيل لتأجيج الصراع الداخلي، وكلّ لغاياته ومصالحه، وفقدت حينها القيادات الوطنية حرية قرارها، واغتيلت قيادات الصف الأول التي كانت ترفض التبعية او التي سعت الى حل داخلي. الى أن قادت الظروف الإقليمية الى اتفاق الطائف سنة 1989 الذي أرسى نظاما سياسيا جديدا بدفع من الرئيس رفيق الحريري وبإدارة الراعي السوري.
ثم جاء حدثان: اغتيال الرئيس الحريري وانسحاب الراعي السوري ليضربا مسيرة اتفاق الطائف، فتمّ خرقه في اتفاق الدوحة أي سنة 2008، في تسوية أكدت صعود «حزب الله» وامساكه بالقرار السياسي الرئيسي والاتجاه بلبنان في مسار جديد داخلي وخارجي. وقد أدّت اغتيالات قادة 14 اذار الى ضرب القوى السيادية لمصلحة خيارات تحالف التيار العوني و»حزب الله» في وضع يد شديدة على النظام السياسي وعلى مؤسسات الدولة.
غير أن انهيار شعبية التيار العوني وانسحاب الكثير من كوادره ومؤسسيه منه أكّدا على أن خيارات قيادة التيار لا تتناسب مع قاعدته الشعبية، وانعكس ذلك سلبا على «حزب الله» على الصعيد الوطني الذي بات منفردا على الساحة في خيارات لا حليف له فيها. ويتأكد ذلك في فشل عهد العماد ميشال عون الذي هو في الأساس فشل خيارات «حزب الله» السياسية محليا وخارجيا. وقد بلغ الوضع من الانهيار الى درجات غير مسبوقة منذ الاستقلال، اذ بات اللبنانيون عاجزين عن تأمين متطلبات حياتهم اليومية من خبز ومحروقات ودواء بعدما خسروا مدخراتهم في المصارف وانهارت عملتهم الوطنية. ويستمر الوضع منذ أكثر من سنتين بالتدهور من دون أي معالجة، وكأن لا وجود لسلطة سياسية.
هذا الوضع ضرب أيضا مصداقية «حزب الله» وأفقده، حتى داخل بيئته، جزءا كبيرا من رصيده الذي كسبه بدماء شهدائه. فهو مسؤول في جانب كبير عن الانهيار الحاصل سواء لناحية تغطيته فشل السلطة الحاكمة وفسادها وتبذير الأموال العامة، وسواء لناحية خياراته السياسية الإقليمية التي وضعت لبنان في محور معاد لموقعه التاريخي الى جانب اشقائه العرب.
وما زاد في الانهيار ان السلطة العونية ذهبت بعيدا في تفسير بعض فقرات الدستور ما اعتبرته بعض الطوائف، لا سيما السنّية، ضربا لدستور الطائف ولدورها على الصعيد الوطني. وقد وصل تحلّل النظام الى أنه لم يعد هناك أي مرجعية قادرة على تفسير الدستور والفصل في التنازع اليومي القائم على الصلاحيات وعلى المكاسب المعنوية والمادية. باتَ العالم يوصّف لبنان على أنه غير قابل للإصلاح: مسؤولون فاشلون وفاسدون، مافيات تتحكّم بمفاصله، وشعب يقبل كل الذلّ ويمكنه بالتالي أن يتعايش مع أي مصير يرسم له.
أي نظام جديد إذاً للبنان؟
أي عقد اجتماعي بين الطوائف يمكنه أن يضمن استمرار الدولة اللبنانية والحفاظ على الكيان؟
بعض القيادات المسيحية ترى الحل في نظام لامركزي موسع، القيادات السنّية تأمل في احياء اتفاق الطائف. أما القيادات الشيعيّة، وهي تمسك اليوم بالسلطة، لا يبدو أنها مستعدة للتنازل عما حققته من مكاسب داخلية، وغير مستعدّة للتخلي عن سلاح المقاومة لصالح الجيش، ما يعني استحالة قيام دولة مركزية تجمع مكونات الوطن.
في علم السياسة، يندر أن يقوم طرف يمتلك امتيازات بالتخلي عنها طوعاً لطرف اخر. هذه هي حال «حزب الله» الذي لا يبدو أنه مستعدّ للتنازل عن الامتيازات التي استحصل عليها. فكيف يمكن إذاً لنظام سياسي جديد أن يقوم بشكل يلتقي فيه اللبنانيون مجددا على أسس جديدة للدولة!! وبالتالي يمكن توقع عدم استقرار الوضع، استمرار الصراع الداخلي بأشكال متعددة، وربما قيام نظام سلطوي على شاكلة الأنظمة العربية يتمكّن من قمع أيّ معارضة ويفرض نفسه بواسطة قواه الأمنية وقوى السلطة المتعددة التي يجيّرها لحسابه. هل هذا مستقبل لبنان؟
امثولات التاريخ تؤكد أن أزمات لبنان كانت دوما متشابكة مع أزمات المنطقة، وأن القرار الداخلي كان أضعف من أن يحدّد مسار البلاد، وان أشكال الأنظمة السياسية التي عرفها لبنان كانت تتقرّر برعاية الدول الخارجية. منذ امارة الجبل مع فخر الدين حتى اتفاق الدوحة كان القرار الخارجي يرسم شكل النظام في لبنان.
في الانتظار، الحكمة اليوم تقتضي العودة الى طاولة حوار داخلية تتفق على نقطتين رئيسيتين: معالجة الازمة المعيشية التي يعانيها كامل الشعب اللبناني على تعدّد طوائفه، والتسليم بمبدأ ان لبنان هو وطن الأقليات والتعددية والحرية، ما يضمن مبدأ التعايش بين مكونات الوطن أنّى تقلّبت الأوضاع الإقليمية والدولية، وهذا ما سعت اليه مبادرة «لبنانيون من أجل الكيان».