من يسمع مواقف وخطابات الكثير من الشخصيّات السياسيّة والحزبيّة في لبنان يظنّ للوهلة الأولى أنّ الجِرار إنكسرت بين الجميع، وأنّ الخلافات الحادة هي التي ستطبع العلاقات الثنائيّة في المرحلة المقبلة، بين قوى كانت تُصنّف حتى الأمس القريب "صديقة" وحتى "حليفة"، وليس فقط بين القوى التي تنتمي إلى محاور مُتضاربة ومُتنافسة. لكنّ في مُقابل هذا الإنطباع الإنقسامي، يُوجد الكثير من الهمس أنّ كل ما يُحكى ويُقال هو عبارة عن تمثيليّات وعن مسرحيّات إعلاميّة لأهداف إنتخابيّة وشعبويّة فقط! وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: بين "تيار المستقبل" وحزب "القوات اللبنانية"، يُقال إنّ العلاقة الثنائيّة مُتدهورة، وأن لا عودة إلى التحالف الإنتخابي بين الطرفين. ويُقال أيضًا إنّ "القوات" لا تُحبّذ أي تحالفات إنتخابيّة مع "المُستقبل" ما لم يتمّ التوافق مُجدّدًا على أرضيّة عمل سياسي مُشترك تتجاوز المصلحة الإنتخابيّة الآنيّة، في حين يُقال إنّ "المُستقبل" لا يريد خيار التحالف مع "القوات" أصلاً، على الرغم من مُحاولات أكثر من طرف، وفي طليعتهم الحزب "التقدّمي الإشتراكي" جمع الطرفين معه في لوائح مُحدّدة في معركة الشوف-عاليه الإنتخابيّة، لتأمين القُدرة على مُواجهة الخُصوم المُشتركين. في المُقابل، تُوجد نظريّة تؤكّد أنّ رفع الشروط والسُقوف إعلاميًا، سُرعان ما سيتبخّر عندما تدقّ ساعة الإنتخابات جديًا، بحيث سيكون الجميع على لوائح واحدة، ليس في "الجبل" فحسب، بل في مناطق أخرى في حال كانت هذه رغبة القيادة السُعودية، والعكس صحيح أيضًا!
ثانيًا: بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، يُقال إنّ العلاقة اليوم هي في أسوأ أيّامها منذ التحالف الثنائي في العام 2006، ويقال أيضًا إنّ تعطيل "الثنائي الشيعي" لإجتماعات الحُكومة، مع ما يعنيه هذا الأمر من تعطيل عملاني لما تبقّى من عهد الرئيس العماد ميشال عون، أدّى إلى تدهور كبير في العلاقة الثنائيّة بين الطرفين، أضيف إلى العديد من التباينات والخلافات السابقة على الكثير من الملفّات. في المُقابل، تُوجد نظريّة تؤكّد أنّ كل هذه الخلافات الظاهريّة هي لضرورات إنتخابيّة بحت، حيث أنّ مصلحة "حزب الله" الإنتخابيّة تقضي بفوز "التيّار" في الإنتخابات لا محالة، ومصلحة هذا الأخير تقضي بالحفاظ على أفضل العلاقات مع "الحزب"، لأهداف سياسيّة وإنتخابيّة وسلطويّة مُستقبليّة عدّة. وبحسب هذه النظريّة، يُريد "التيّار" الظهور بمظهر المُختلف مع "الحزب" عشيّة الإنتخابات، لتوجيه رسائل إيجابيّة إلى الخارج ولإستمالة بعض الناخبين المُمتعضين من "حزب الله" وسياساته، علمًا أنّ الدعم المُتبادل سيكون حاضرًا في الإنتخابات، حتى لو لمّ يتمّ تشارك لوائح واحدة، باعتبار أنّ القانون الإنتخابي النسبي الحالي، يسمح بإجراء مُناورات إنتخابيّة عدّة، من بينها تشارك أكثر من جهة سياسيّة المصلحة الإنتخابيّة، ولوّ من خلال الترشّح على لوائح مُختلفة.
ثالثًا: العلاقة بين مُكوّنات سابقة في قوى "8 آذار" مثل "حركة أمل" و"تيّار المردة"، ومُكوّنات سابقة في قوى "14 آذار" مثل "الحزب الإشتراكي" و"تيّار المستقبل"، تبدو أنّها تُواجه إنقسامات جوهريّة بشأن دور لبنان في المنطقة، وطبيعة تحالفاته، إضافة إلى مسألة النظرة إلى سلاح "حزب الله"، إلخ. في المُقابل، تُوجد نظريّة تؤكّد أنّ هذه التباينات والخلافات في الظاهر، تتناقض مع مصالح مُشتركة واسعة ومُتعدّدة في المضمون، حيث أنّ كلّ هذه القوى مُوحّدة خلف الكواليس حول أهداف مُشتركة، منها مُعارضة عهد الرئيس عون و"التيّار" حتى النهاية، ومنها تحضير الأرضية لعقد صفقة سياسيّة كبرى تشمل العهد المُقبل، بدءًا من موقع رئاسة الجُمهوريّة نُزولاً إلى كل مفاصل تركيبة السُلطة، إلخ.
رابعًا: العلاقة بين قوى تُصنّف نفسها "ثوريّة" و"مُعارضة" وضُد كامل ما يُسمّى "المَنظومة"، تبدو بدورها في الظاهر غير قابلة للتعافي، وتُوحي بأنّ معركة "كسر عظم" ستحصل في الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، في ظلّ رفع سقف الشعارات الشعبويّة البرّاقة. في المُقابل، تُوجد نظريّة تؤكّد أنّ كل هذه الخلافات الظاهريّة تُخفي تحالفات عدّة من تحت الطاولة، تُشارك فيها أحزاب مثل "الكتائب" و"الشيوعي" وغيرهما الكثير من الأحزاب ومن الشخصيّات التي تُصنّف نفسها "مُستقلّة"، وتُخفي أيضًا توزيعًا للأدوار، وتعدّدًا مُتعمّدًا للوائح، وترشيحًا مُستترًا لمُحازبين غير معروفين على لوائح مُستقلّة، إلخ. وذلك بهدف نيل رضا الناخبين عن طريق الحيلة، لا أكثر ولا أقل.
في الخُلاصة، قد يكون صحيحًا أنّ قلّة من القوى والشخصيّات السياسيّة لا تزال تتمتّع بالحدّ الأدنى من أخلاقيّات العمل السياسي وفق أهداف مبدئيّة ثابتة، لكنّ الأصحّ أنّ أغلبيّة القوى والشخصيّات تتنافس على تقاسم "قالب الحلوى"، وتُبدّل تحالفاتها وشعاراتها وتغيّر خطاباتها ومواقفها وعظاتها، لتكبير حصّتها في الحُكم والسُلطة، فقط لا غير!.