على الرغم من انشغالها الكبير في أزماتها الداخلية والملفات الخارجية المتزاحمة وفي طليعتها الملف النووي الايراني، لا تتردّد الادارة الاميركية في توجيه الرسائل المتلاحقة حول تمسكها بدورها في صياغة الصورة المستقبلية للبنان. ولا حاجة لتكرار ان واشنطن أولَت العاصمة الفرنسية مهمة الاهتمام بالتفاصيل اللبنانية والتي ستشكل باباً لاستعادة الدور الفرنسي ومعه الاوروبي في الشرق الاوسط انطلاقاً من الساحة اللبنانية. من هنا فإنّ الكلام حول الذهاب الى «الجمهورية الثالثة» أو حول اعادة تلزيم لبنان الى سوريا أو ايران لا يبدو واقعياً.
صحيح أن الازمات التي يمرّ بها لبنان تكاد تخنقه، إلا أن هنالك ما يشبه خارطة الطريق جرى وضعها، وهي تمرّ بمراحل عدة قبل الوصول الى الاستقرار مع التفاهم على «وظيفة» الدولة الجديدة، والتي من المفترض ان تدوم لعقود عدة، وهي فترة الحرب الباردة المتوقعة بين الولايات المتحدة الاميركية والصين. فعلياً دخل لبنان مرحلة الورشة الانتخابية. العديد من القوى السياسية شكك في الماضي باحتمال حصول الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية، او ربما كان يأمل ذلك. وقد يكون هنالك من يعمل على ذلك في الخفاء. لكن الانتخابات النيابية هي محطة أساسية في خارطة الطريق الدولية الموضوعة للبنان. ربما لذلك تعمل القوى السياسية في لبنان على مفاقمة الازمات السياسية بدل الانصراف لإيجاد الحلول المطلوبة للانهيار الاقتصادي والمالي الذي يضربه.
ولم يعد سراً ان العاصمتين الاميركية والفرنسية نظرتا بارتياب واضح الى التعطيل الذي رافق ولادة الحكومة اللبنانية. وعملت باريس بدعم أميركي على فصل الخيوط اللبنانية المتشابكة عن تلك الاقليمية، وهو جعلها تنجح في نهاية المطاف في تأمين ولادتها.
وللتذكير فإنه في تموز الماضي زارت السفيرتان الاميركية والفرنسية السعودية في مهمة غير مسبوقة شكلاً ومضموناً بهدف المساعدة في تأمين ولادة الحكومة. مع الاشارة الى ان الرئيس سعد الحريري كان مكلّفاً يومها بمهمة التشكيل.
أما اليوم، فإنّ الحكومة التي عقدت جلسات معدودة اضحت معطلة ومهدّدة بالشلل حتى موعد الانتخابات النيابية. وثمة اسئلة تُطرح في الكواليس حول الخلفيات السياسية لهذا التعطيل.
وخلال الأيام الماضية حصلت مشاورات بين الدوائر المعنية بالملف اللبناني في كل من واشنطن وباريس، وعلى ضوء نتائج زيارة الرئيس الفرنسي الى السعودية، وتقرر حصول تحرك اميركي – فرنسي مشترك باتجاه القيادة السعودية، في استعادة لما حصل في تموز الماضي، ولكن على مستوى اعلى.
وتكتمت الاوساط المطلعة عن اعطاء المزيد من التفاصيل حول المهمة الاميركية – الفرنسية الجديدة والمتعلقة بلبنان. لكن اللافت ما صدر خلال الايام الماضية عن وجود توجه اميركي – فرنسي لإنزال عقوبات مشتركة بحق سياسيين لبنانيين.
الأرجح ان هذا التلويح يهدف لمواكبة التحرك الاميركي – الفرنسي باتجاه السعودية وتأمين جوانبه في لبنان. ذلك ان الانطباع الغالب هو ان واشنطن وباريس ستسعيان لإقناع ولي العهد السعودي باستقبال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اضافة الى تدارس الخطوات السعودية في اطار استعادة التوازن مع ايران، وليس أبداً التصادم معها.
وفي إشارة دولية اضافية، وصل أمين عام الامم المتحدة انطونيو غوتيريس الى لبنان في زيارة بالغة الدلالات في ظروفها وتوقيتها. فأن يجد غوتيريس الوقت الكافي لتخصيص لبنان بهذه الزيارة، في وقت تتصاعد فيه الأزمات الدولية وتتفاقم المشاكل والاضطرابات، فهذا يحمل في طياته رسالة واضحة بأن هنالك من شجعه على الزيارة والهدف هو التأكيد مرة جديدة على أن لبنان موضوع تحت المجهر الدولي، وأن الامم المتحدة سيكون لها دور عملي في اعادة ترتيب الاوضاع اللبنانية عندما يحين الوقت. ومن الطبيعي ان يلتقي امين عام الامم المتحدة كبار المسؤولين اللبنانيين، وان يزور الجنوب ويتفقد قوات الطوارئ الدولية، وان يعاين عن قرب المساعدات التي تقدّمها الامم المتحدة للنازحين السوريين. لكن ثمة محطتين لافتتين في برنامج غوتيريس، الاولى تتعلق بلقائه ممثلين عن المجتمع المدني، ففي المرحلة الاخيرة، وتحديداً منذ بدء الحراك الشعبي في 17 تشرين وبرامج زيارات المسؤولين الغربيين تتضمن لقاء مع المجتمع المدني او ممثلين عن الحراك الشعبي في مقابل تجاهل الاحزاب والقوى السياسية التي تتألف منها الطبقة السياسية. ويأتي برنامج لقاءات غوتيريس في السياق عينه، ما يوحي بإقرار الدول الغربية بأن الشرعية الشعبية في مكان والحضور السياسي في مكان آخر. وهو لذلك سيكرر تمسك الامم المتحدة بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها.
أما الثانية فتتعلق بزيارة امين عام الامم المتحدة لقائد الجيش في مكتبه.
الواضح ان الرقابة الدولية قائمة على لبنان وهي ستكون صارمة خصوصاً لجهة اتمام الانتخابات النيابية المقبلة. والواضح ان ثمة تركيز على نتائجها، ليجري بعد ذلك فتح بازار التفاوض حول «الوظيفة» التي سيتولاها لبنان في المرحلة المقبلة. وهو ما يعني هنا، فتح باب التفاوض حول آلية عمل الحكومات المقبلة من خلال انجاز تفاهمات على مستوى اتفاق الدوحة، لكن من ضمن الهيكلية التي جرى اقرارها في اتفاق الطائف عام 1990.
ومن الواضح أيضاً أن فرنسا تتجه لأن تتولى رعاية عملية اعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية. ذلك ان الادارات الرسمية والتي دمرت وتفككت سيُعاد تركيبها، ولكن وفق مفهوم حديث وتحت اشراف مباشر من صندوق النقد الدولي.
في المحصلة، ثمة خارطة طريق موضوعة للبنان، وتشكل محطة الانتخابات النيابية احدى محطاتها الالزامية. والأهم ان الرقابة الدولية لن تقتصر هذه المرة على المواقف والبيانات الشاجبة، بل انها ستصل الى حدود فرض العقوبات الموجعة على شخصيات واطراف سياسية في حال العرقلة وأنه سيُعاد تركيب مؤسسات الدولة اللبنانية على أسس جديدة، بعد التفكك الذي تشهده حالياً.