مع بداية العام الجديد، يبدو ان عنوان المرحلة المقبلة هو "الدعوة الى الواقعية"، ستنتهجها الدول الكبرى، بعد الأزمات المتلاحقة التي ضربت بلدان العالم بفعل الوباء، فراحت الكبرى منها تلملم جراحها في العام 2021، وترتّب بيتها الداخلي، وتتصدّق على الدول النامية باللقاحات والمعونات الغذائية.
الإرتباك الأكبر عالميا يبدو انه لدى الولايات المتحدة، بعد ان اجتاحت كورونا جسمها الإقتصادي، فبدت نحيلة امام الصين، التي راحت تبني امبرطوريتها من الشرق الكبير الى افريقيا "الثريّة" خلال القرن الماضي، حتى استفاقت اميركا على وحش اقتصادي يلتهم العالم، بينما هي في حيرة مع خروجها خاسرة من افغانستان والعراق، بعد ان صرفت تريليونات من الدولارات للسيطرة على الموارد الطبيعية تحت عنوان "بسط الديمقراطية".
ولم يعد خافياً على أحد ان الإرتباك الكبير في الإدارة الأميركية يتمثّل بالبحث عن موراد مالية لسدّ العجز الحاصل في الدولة والمؤسسات الخاصة. وهي راحت تطبع الدولار وتنزله الى الأسواق حتى انتفض الكونغرس الشهر الفائت، وأعطى أمراً بتوقيف طبع العملة، لأنه يزيد الديون ويبني قصوراً مالية من ورق.
الصين المحتارة ما بين خضوعها لشروط البيئة العالميّة واستمرار الصعود والتفوّق في أعمالها، جعلت آلاف الشركات تهرب برأسمالها الى الولايات المتحدة، لتتعاقد مع دولة ديمقراطية تحفظ لها حقوقها من النظام الشيوعي. ضربة كبيرة تلقّتها الصين هذا العام، إضافة الى عشرات الملايين من العاملين الذي أصبحوا في خانة العاطلين عن العمل. وما يعوّض لبكّين في المرحلة المقبلة هو نتاج تغلغها في القارة الإفريقيّة على الأبواب والمنافذ البحرية، سياسة عملت عليها بدقة وذكاء، فبسطت سيطرتها الإقتصادية في المكان الذي غابت عنه الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين، ودفعت ايضاً ثمن غلطة كبير رجال الأعمال، الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي لم يقم بزيارة واحدة الى أي دولة إفريقية خلال عهده، فجعل الصين تستحق الخيرات الإفريقية دون منازع.
اما في مسرحية "غزو اوكرانيا"، يتّضح في كواليسها بعد البحث، انها عمليّة لاستمرار توريد الغاز الروسي الى اوروبا، بعد الإتفاق بين قبرص، اليونان، فرنسا وتركيا، الأمر الذي يهدّد حياة الملايين من الشعب الروسي بالمجاعة والبرد، إذا توقفت موسكو عن بيع غازها لأوروبا.
ونفت آخر التصاريح الروسيّة عزمها غزو اوكرانيا، انما أعلنت عن رغبتها في استرداد المناطق الإنفصالية التي تحكمها اليوم الأخيرة، على غرار ما حصل في الصراع على ناغورنو كاراباخ بين اذربيجان وأرمينيا.
ما تسعى الولايات المحتدة اليه اليوم هو كسر شوكة روسيا في دارها، فتعمل على زجّها في أوكرانيا في حرب طويلة الأمد، على غرار حربها في أفغانستان، فيقاطعها الإتّحاد الأوروبي الذي بدأ اصلاً بالتلويح بعقوبات عليها.
التناحر الآخر اليوم هو بين فرنسا وروسيا، حول من يستفيد أكثر من أوروبا بعد الوباء حيث هدّد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نظيره الروسي فلاديمير بوتين بقوله لن تستفيدوا وحدكم من بيع الغاز.
روسيا بدورها المتعاونة مع إيران علناً، تعمل في الظّل على محو حضور غريمتها في سوريا، حيث حُكي في اوساط الإدارة الأميركية عن ضوء أخضر أعطته روسيا للطيران الإسرائيلي، الأسبوع الفائت، للاغارة على محيط مرفأ اللاذقية، حيث تخزّن إيران أسلحتها، والهدف هو إخراج الايرانيين من سوريا وهو قرار اتفق عليه الجميع.
ضربات عسكرية متنقّلة ظاهرها غزو وباطنها اقتصادي، هدفه السيطرة على الموارد الطبيعية. لا أحد جاهز للحرب ولا حتى راغب فيه. ولكن شركات الأسلحة تريد تصريف إنتاجها، وهذا واضح من إبرام صفقات السلاح والطائرات بين كل دول العالم، والتي عُقدت في الأشهر الماضية من العام الجاري. اميركا التي رفعت ميزانية الدفاع لديها الى 769 مليار دولار، واشترت أسلحة بقيمة 2 تريليون دولار، ما هي الا انصياع لشركات تصنيع السلاح النافذة اقتصادياً التي تحرّك الإنتخابات الأميركية كيفما تريد. وهو طبعاً ليس لمحاربة الصين او إيران، ولم يعد ينفع معها سوى المفاوضات "بشروطها"، حسب ما يرشح من سير المباحثات في فيينا.
الحرب بالسلاح لم تعد تُجدي نفعاً اليوم بعدما أصبح الوباء وانهيار المؤسسات وفقدان الرغيف أكثر فتكاً ودماراً للشعوب، والدول الأكثر تضرراً هي الفقيرة والنامية.
بالنسبة للبنان، لا يهمّ اللبناني إذا ربح العالم حروباً وخسر هو سيادته، وقد اتضح للمجتمع الدولي ان لبنان غير قادر على حكم ذاته، وقد أصبح مثل أرض "المشاع"، بانتظار من سيكون وصياً عليه، ونسي انه عند عقد اتفاقية سايكس-بيكو، بعد الحرب العالمية الأولى، لم يأخذ مهندسو التقسيم برأي اللبنانيين وشعوب المنطقة العربيّة، لكنّه مستمر بنسج خلافاته تنفيذاً لأوامر الخارج.
وأمين عام الأمم المتحدة الذي زار لبنان، جاء ليذكره ان المنظمة الدوليّة غير قادرة على مساعدته بأكثر من 383 مليون دولار التي دفعتها، وقد تبيّن من هدف الزيارة هو التعجيل في ترسيم الحدود، والتشديد في موضوع إجراء الإنتخابات النيابية، والتي ربما قد تجري تحت وصاية الأمم المتحدة، على غرار ما حصل في العراق. ويحضر هنا السؤال: هل سيتكرر هذا السيناريو العراقي، وتفوز المعارضة وسط شكوك بتشتّتها وعدم قدرتها على التغيير، بعد فشل التحرّكات الشعبيّة وامتطاء الأحزاب لها وبعثرتها!.
الأمم المتحدة-نيويورك