في كلّ مرة كانت أميركا تطلق بها أكذوبة أو تلفق فيها مسرحية تتهم بها جيشاً من جيوش الخصوم والأعداء بأنه خرج في الميدان عن قواعد القانون الدولي الإنساني، أو تتهم فيها مكوناً مسلحاً يقاوم احتلالها المباشر أو غير المباشر تتهمه بأنه فصيل إرهابي، في كلّ مرة تطلق فيها أميركا ذلك نجدها تخفي جريمة ارتكبتها، أو تحضر المسرح لجريمة سترتكبها منتهكة قواعد الحرب وقواعد القانون الدولي. فأميركا خلافاً لجيوش المعمورة تمارس في الميدان القتل للإرهاب وأحياناً القتال للتدمير، بينما وظيفة الجيوش عادة هي القتال دفاعاً أو هجوماً من أجل تحقيق هدف وطني أو قومي ما.
وفي احتلالها لمناطق في الشرق الأوسط بخاصة في كلّ من أفغانستان والعراق وسورية، لم تخرج أميركا عن هذا السلوك النمطي الاجرامي في أدائها الميداني، ففي الوقت الذي كانت تدّعي فيه مثلاً أن الجيش العربي السوري استعمل الأسلحة الكيماوية ضدّ «المواطنين السوريين الأبرياء» وقتل منهم الكثير، كانت طائراتها النفاثة أو المسيّرة ترتكب المجازر غير المبرّرة بحق المدنيين السوريين، على حدّ ما أوردت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، التي ذكرت أنّ هناك أكثر من 1300 تقرير سرّبت من البنتاغون تتضمّن إحصاء لحجم الخسائر الهائل في صفوف المدنيين التي أوقعتها الطائرات الأميركية، التي تدّعي أنها تملك أرقى تقنية في العالم لتحديد الأهداف وضبط النار ومنع الخطأ.
والسؤال المركزي الذي يُطرح هنا هل أن الجيش الأميركي يقتل المدنيين عن طريق الخطأ؟ أم أن القتل مسألة تدخل في صلب قواعد العمل العسكري الأميركي في الميدان؟ سؤال يفتح على سؤال آخر فيه القول كيف يمكن منع أميركا من ارتكاب هذه الجرائم؟
من يعرف ما تملكه أميركا من وسائل المراقبة والاستطلاع وتحديد الأهداف، يصل إلى نتيجة يستبعد فيها إمكان حصول الخطأ في قتل المدنيين بهذا الحجم. فأميركا وفقاً للوثائق المسرّبة نفذت خلال 5 سنوات في البلدان الثلاثة التي احتلتها كلياً أو جزئياً أكثر من 50 ضربة جوية ارتكبت فيها مئات المجازر بحق المدنيين، تنوّعت بين استهداف الجماعات والمناطق الآهلة وقوافل السير والمدارس والأعراس والتجمعات والبنى التحتية إلخ… وكلها أهداف يمنع القانون الدولي العام قصفها. وفي المقابل لم يسجل البنتاغون حادثة واحدة لوحق بها مسؤول عسكري بجريمته أو حتى اتخذ بحقه تدبير تأديبي مسلكي.
إنّ إمعان أميركا باستهداف المدنيين دونما اكتراث أو حذر يعود برأينا إلى سببين… الأول عائد إلى أنها تدرج قتل المدنيين في صلب استراتيجية ممارستها للقوة القمعية بحق الشعب في الدولة المحتلة من أجل ترهيبه ودفعه للاستسلام للاحتلال، والسبب الثاني عائد إلى شعور أميركي بالاستعلاء والممارسة فوق القانون وعدم قدرة أحد على محاسبتها أو معاقبتها، فالشعور الأميركي بالقدرة التامة على الإفلات من العقاب والتصرف بأنها فوق القانون، يدفع العسكري الأميركي للعمل باستخفاف حيال أمن الآخرين وسلامتهم، ويحول دون إلزامه باتخاذ تدابير الحيطة والحذر المفروضة في الميدان، فضلاً عن التقيد الصارم بقاعدة «التناسب والضرورة» الحاكمة في العمليات العسكرية.
والمثير للاستهجان أن أميركا التي هذا هو حال ممارستها ضدّ المدنيين، تدّعي أو تنصّب نفسها مدافعاً عنهم في وجه دولهم وجيوش دولهم، وتجيز لنفسها العدوان على تلك الجيوش بذريعة حماية المدنيين، كما فعلت أكثر من مرة في سورية، حيث زعمت أن الدولة استهدفت الشعب بالسلاح الكيماوي وقامت هي بالعدوان علي الجيش العربي السوري انتقاماً للشعب كما زعمت! ومن المفارقات المضحكة المبكية هنا أن أميركا في الوقت الذي ادّعت أن ضحايا السلاح الكيماوي في أحد المواقع كانوا32 مدنياً، تبيّن أن طيرانها كان، قبل 5 أيام فقط، قد أجهز على تجمع اجتماعي عام وقتل 120 شخصاً في سورية.
أمام هذا الواقع المثير للإدانة والاستنكار الشديدين يطرح السؤال الأساس كيف يمكن أن تعاقَب أميركا على جرائمها بحق المدنيين؟
مع تأكيدنا لرفض الاحتلال الأميركي لأيّ دولة أو منطقة واعتباره عدواناً مداناً وغير مشروع، فإنّ قتل المدنيين وفي الشكل الذي يحصل على يد القوات الأميركية يفرض البحث عن وسائل الدفاع المناسبة، خاصة أن أميركا ترى نفسها فوق القانون وبمنأى عن المحاسبة الدولية من أيّ نوع كانت. لذلك ومع عدم الجدوى من اللجوء إلى المؤسسات والقضاء الدولي لمحاسبتها لن يكون مناص من أن يتولى الشعب المعتدى عليه والمستهدف بالجرائم الأميركية، أن يمارس حق الدفاع المشروع عن النفس عبر مقاومة ضدّ قوات الاحتلال لا بدّ منها من أجل وقف الجرائم وإنهاء الاحتلال، وهذا ما أكدت عليه وقائع التاريخ الحديث التي سجلت ضدّ أميركا بدءاً بفيتنام حيث طرد الأميركي مهزوماً، وفي أفغانستان حيث هرب الأميركي مكسوراً أو في العراق حيث ألزمت المقاومة العراقية أميركا بوضع حدّ لوجودها القتالي، وتستمر المقاومة لأنهاء هذا الوجود كلياً.
أما في سورية فإنّ المقاومة الشعبية الوطنية السورية الواعدة التي تشكلت شرقي الفرات، باتت في مستوى يجعل المتابع يتفاءل خيراً بنتائجها، حيث أن تكرار التصدي للجيش الأميركي المحتلّ أثناء تنقلاته ومنعه من إكمال المسير أكثر من مرة أو استهداف مراكز عسكرية أميركية أو لأدوات أميركا من قسد وغيرها، كلها أمور تنبئ بأمر هامّ مفاده أن على أميركا أن تنهي احتلالها لشرقي الفرات السوري قبل أن تدفع الثمن الكبير الذي يجبرها على الرحيل عنه، كما طردت من سواه من مناطق احتلالها.