ما الذي ستحمله الجولة الثامنة من المفاوضات النووية في فيينا، بعد أن علقت الآمال الكبيرة على الجولة السابعة، وارتفع فيها لوقت، منسوب التفاؤل الذي روّج له أكثر من طرف! تفاؤل كان يُؤمل منه أن يودي للتوصل إلى حلّ يرضي الأطراف المفاوضة. ويتصاعد منه الدخان «النووي» الأبيض!
لقد نشطت الولايات المتحدة من خلال مبعوثها الخاص للشؤون الإيرانية في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن منذ كانون الثاني 2021 روبرت مالي Robert Malley، ومدير برامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية في واشنطن، الذي تواصل مع أطراف دولية واقليمية بغية التوصل إلى اتفاق نهائي ينجم عن الجولة السابعة من المفاوضات. وهي الجولة التي جاءت بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران الماضي، وأتت برئيس محافظ، متشدّد، متمسّك بحق إيران في امتلاك وتطوير برنامجها النووي السلمي. إلا أن واشنطن، وقبل الشروع في مفاوضات الجولة السابعة، مارست ضغوطاً على إيران، أخذت منحى تصعيدياً، من أجل حملها على تقديم تنازلات جوهرية تلبّي مطالب وأهداف واشنطن وحلفائها.
كانت الإدارة الأميركية تتوقع الوصول إلى اتفاق مع طهران قبل نهاية هذا العام، وإحيائه من جديد، ومن ثم عودة واشنطن إلى مجموعة 5+1.
رغبة واشنطن لم تتحقق، بعد أن تمسك الجانب الإيراني بمطلبه الثابت، وهو إلغاء العقوبات كافة، التي فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ودفعة واحدة غير مجزأة، تطبّق في شكل عملي لا نظري.
إيران رفضت ما تسرّب لها من معلومات مفادها أن الأميركيين يدعمون اقتراحاً قدّمه طرف أوروبي قريب من المفاوضات، غايته التوصل إلى «اتفاق مرحلي» بين طهران والمجموعة الغربية، يضمن تعهّد إيران بالامتناع عن تخصيب اليورانيوم مقابل تحرير الودائع الإيرانية المجمّدة، ومن ثم الاستمرار في المفاوضات لحين التوصل إلى اتفاق نهائي ودائم.
الاقتراح الأوروبي الذي وافقت عليه الولايات المتحدة يخضع لمبدأ التعليق مقابل التعليق، وهو اتفاق موقت يفسح المجال ويعطي الوقت الكافي لإتمام اتفاق نووي دائم. وهو حلّ يرى فيه الغرب «الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية» بأنه مقدمة أساسية لمفاوضات مستقبلية تودي إلى اتفاق أشمل وأوسع. لكن مبدأ التعليق مقابل التعليق، قد يدوم طويلاً، ويصبّ في صالح الغرب لا في صالح إيران. ليس من الصعوبة بمكان أن تقبل طهران بهذا المبدأ، وهي التي تعلم جيداً أن الاتفاق النووي الذي وقع عليه عام 2015، تنتهي مفاعيل بنود كثيرة فيه عام 2025، حيث لم تلتزم به واشنطن. كما أن الحكومة الإيرانية الحالية لديها ملاحظات وتحفظات وانتقادات شديدة حيال الاتفاق النووي الموقع عليه عام 2015. لذلك فإنّ جولات المفاوضات المقبلة لن تكون يسيرة، بل شائكة ومتشعّبة، تتجاذبها الأطراف، لا سيما أن ثقة الإيرانيين لجهة السلوك الأميركي، والتعاطي مع إيران مهتزة أن لم نقل مفقودة، نتيجة الخلافات المستحكمة بين الطرفين منذ أربعة عقود، والسياسات الأميركية الشرسة التي عانت منها إيران الأمرّين، وكان آخرها انقضاض ترامب على الاتفاق النووي، وانسحابه الأحادي منه بعد ثلاث سنوات من توقيعه، ومن ثم إعادة فرضه العقوبات على إيران من جديد، غير مبال أو مكترث بالمجتمع الدولي وبحلفائه.
إيران وهي تتعاطى مع المجموعة الأوروبية، تنطلق من مبدأ الحفاظ على حقوقها، ومعرفة مدى تجاوب الجانب الأميركي، وحسن نواياه حيالها. فأيّ خطوة ايجابية غربية تجاه طهران ستقابلها خطوة ايجابية من جانبها. وفي حال تعنّتت واشنطن، وامتنعت عن رفع العقوبات كاملة ودفعة واحدة، عندئذ سيكون لإيران خيارات أخرى، أقلها السير بخطى كبيرة في تطوير برنامجها النووي من دون التقيّد بنسبة تخصيب اليورانيوم. ما سيدفع لاحقاً بواشنطن وحلفائها إلى اتخاذ إجراءات عاجلة ضدّ طهران، وفرض المزيد من العقوبات عليها، وعلى مختلف المستويات. وهذا ما تدركه إيران جيداً وتضعه في حسابها.
الولايات المتحدة وحلفاؤها أصبحوا على يقين أن كلّ الإجراءات «السلمية» والعقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية الواسعة، التي فرضوها على إيران، لم تحملها على الخضوع والقبول بالشروط الأميركية والأمر الواقع. لكن ماذا لو أصرّت واشنطن على شروطها، ورفضت طهران هذه الشروط، وفشلت المفاوضات؟ ما لم تعطه إيران في اتفاق 2015، لن تعطيه في أيّ اتفاق مقبل، اليوم أو غداً، مهما كانت جرعة التهديدات العسكرية لواشنطن أو «الكيان الإسرائيلي».
الساحة مشرّعة على كلّ الاحتمالات، والإيرانيون على ثباتهم، يحسبون ذلك جيداً، وهم جاهزون لمواجهة أيّ مغامرة عسكرية من أي جهة تأتي، ولن يفرّطوا لا من قريب أو بعيد ببرنامجهم النووي السلمي الذي يعتبرونه فخر إنجازاتهم العلمية، وحقهم الطبيعي في استخدام الطاقة النووية السلمية في نهضة بلادهم وتطورها وتقدمها.
هل تكون الجولة الثامنة هي الأخيرة، أم أن هناك جولات أخرى تنتظر؟
يبدو أن التطمينات الإيرانية الموجهة للداخل، لا تعكس حقيقة ما يدور في فيينا، حيث يخيّم الحذر والتباين في وجهات النظر والطروحات بين الجانب الإيراني،
والجانب الأميركي «المتمثل» ببريطانيا وفرنسا وألمانيا.
الكرة ليست في ملعب طهران، وإنما في ملعب من يريد أن ينتف ريش البرنامج النووي الإيراني شيئاً فشيئاً، ويحجم قوة وقدرات إيران النووية. لذلك، لا مجال أمام طهران للتراجع عما حققته عام 2015، حيث تطورها العلمي النووي يتعزز مع الوقت، وسيأتي اليوم الذي سيقرّ به الغرب عاجلاً أم آجلاً بحقها النووي السلمي.
في ظلّ أجواء المفاوضات التي يكتنفها الضباب، تستبق «إسرائيل» النتائج، لتصعّد من لهجتها العسكرية العدوانية ضدّ إيران، حيث الكيان «الإسرائيلي» يهدّد، ويرفض رفضاً مطلقاً ايّ اتفاق نووي غربي مع طهران، يضمن لها برنامجاً نووياً ولو بحدّه الأدنى، وهو الذي ندّد على الفور بالاتفاق النووي بعد توقيعه عام 2015، عندما وصفه نتنياهو في حينه بـ «الاتفاق السيّء» وبـ»الخطأ التاريخي».
«إسرائيل» تلوّح بـ»هجوم عسكري مدمّر»، في حال فشلت المفاوضات النووية. لكن التهويل «الإسرائيلي» لن يمنع إيران من السير قدُماً في برنامجها النووي، وهي جاهزة لكلّ الاحتمالات. فأيّ استهداف «إسرائيلي» لموقع نووي أو غير نووي إيراني، سيلقى رداً سريعاً من جانب طهران، وهذا أمر محسوم
إنّ أيّ عدوان «إسرائيلي» أو غيره، يطال منشاة نووية إيرانية، ومهما كانت الأضرار التي قد تترتب عنه، لن ينال من جيش من علماء الذرة والفنيين والتقنيين الإيرانيين، من أن يستعيدوا قدراتهم على الفور، ويمتصّوا تبعات ايّ عدوان. لكن ماذا عن «إسرائيل» ومستقبل كيانها، فيما لو تعرّضت لردّ فعل إيراني؟ فهل باستطاعتها أن تمتصّ الضربات الإيرانية، وتوفر الأمان والبقاء للمحتلين المحاطين بعداء شعوب المنطقة المتجذر حيالهم، والرافضة لوجودهم في الشكل والأساس؟
«إسرائيل» تريد من واشنطن أن تتولى مهمة ضرب إيران، لتراقب عن بعد ما يجري على الساحة من دون أن تورّط نفسها، لكن وإنْ أرادت أن تكون خلف الستار، فالنار ستصل إليها وستحرقها وهي تعرف ذلك. فكلما قويت شوكة الإيرانيين، كلما زاد تهديد «الإسرائيليين»، ليقتصر على التصريحات والأقوال، والتهويل والتخويف، الذي لا ينطوي على القيادة الإيرانية، ولا يغيّر قيد أنملة من مواقفها وتوجهاتها وأهدافها، لا سيما لجهة برامجها النووية والصاروخية والفضائية والعلمية، وتطوّرها الاقتصادي والصناعي والبحثي والمعرفي.
مفاوضات فيينا ونتائجها ستشرع أبوابها أمام فرص النجاح أو الفشل، احتمالات السلام أو الحرب، التقارب والتعاون أو المزيد من الحصار والعقوبات.
من فيينا ينتظر العالم الدخان الأبيض، على أن لا يكون دخاناً أسود تتمناه، وتعوّل عليه دولة الاحتلال «الإسرائيلية»!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق