يعمّق الإرباك السياسي من حدّة الأزمات التي يعيشها لبنان، خصوصاً ان غياب أحد أركان المنظومة السياسية رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري عن الساحة اللبنانية يزيد من حدّة الإرباك، خصوصاً عند المسلمين السنّة. بيّنت نتائج إستطلاعات للرأي وجود هذا الإرباك، نتيجة غياب الحريري، في ظل إنتشار الشائعات عن عدم ترشّح الحريري للانتخابات النيابية.
كما تصب محاولات شقيق رئيس الحكومة الاسبق بهاء الحريري لفرض نفسه بديلاً عن شقيقه في هذا الإطار: لم تبيّن إستطلاعات الرأي وجود أدنى تأييد شعبي لبهاء الحريري في الساحة السنّية، علماً أن الشقيق يتواصل مع "مفاتيح انتخابية" في عدد من الدوائر عبر شخصيات تحاول أن تُقنع المفاتيح والنافذين والمرشحين التقليديين أن "بهاء هو البديل عربياً"، لكنها لا تلقى تجاوباً لغاية الآن.
كلّها خطوات زادت من مساحة الإرباك، ولم تبعث على الطمأنينة خصوصاً في بيروت وإقليم الخروب والبقاع، بينما يخفّ القلق الشعبي السنّي شمالاً بعدما ثبّت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نفسه في صلب المعادلة السياسية. لكن ميقاتي لا يتجاوب مع أي مطلب لتوسيع مساحات تمثيله الشعبي خارج شمال لبنان، ويرفض أي كلام عن زعامة سياسية. علماً ان ميقاتي لم يتخذ قرار الترشح للانتخابات النيابية، فهل يربط خطوته بموقف "الشيخ سعد"؟.
بالإنتظار، يحاول "الشيخ بهاء" أن يسوّق نفسه عربياً، لكنه لم يلمس وجود مؤشرات سعودية ولا مصرية داعمة لخطوته. هناك من نصحه بأن واشنطن هي المدخل الى عقول وقلوب السعوديين، وان التسويق السياسي يبدأ فيها. لذا، تم تنظيم لقاء له مع مجموعة من السياسيين الأميركيين من بينهم مستشار الرئيس جو بايدن، لكن نتيجة النقاش لم تترك انطباعات ايجابية اميركية عن الشقيق، رغم محاولة المنظّمين تلميع صورته. فلم تقدّم اجتماعات واشنطن شيئاً للشقيق الذي لا يزال يحاول مستنداً الى خطوات اعلامية جبّارة، في زمن تخلّي "الشيخ سعد" عن مؤسساته الاعلامية.
لكن ليس بالإعلام وحده يُفرض الزعيم. هناك توازنات سياسية لبنانية خبرها رئيس الحكومة الاسبق منذ عام ٢٠٠٥، صارت كفيلة بصنع الحدث السياسي. يكفي ان يطل سعد الحريري امام جمهوره بكلمتين لا غير: سنُكمل معاً.
فهل يقدّم فعلاً بهاتين الكلمتين؟.
تنتظر القوى السياسية الحريري المقيم في ابوظبي. لا شك ان رسائل يومية تصله من لبنان تستفسر عن موعد العودة الى بيروت. لكن لا احد يعلم توقيت ومبررات العودة. علماً ان مطلعين لبنانيين نقلوا اجواء اميركية مفادها: سيزور الحريري الولايات المتحدة الاميركية قريباً. قد تشكل تلك الزيارة ولقاءاتها مقدمة لعودة رئيس "المستقبل" الى لبنان، ليفتتح موسم الانتخابات النيابية التي تحدّدت في منتصف شهر ايار المقبل.
وفي حال اتخذ الحريري قرار عدم خوض الانتخابات النيابية، ستتعدد السيناريوهات:
اولاً: اذا كان ميقاتي لا يرغب بالتمدد خارج شمال لبنان، فمن يملأ غياب الحريري عن الساحة السنية؟ لا يبدو ان البدائل السياسية المطروحة الاخرى، ومنها بهاء الحريري، قادرة على سد الفراغ السياسي السنّي. عندها يتقدم خيار التطرف الاسلامي السنّي بديلاً وحيداً من "المستقبل". فمن له مصلحة في لبنان او الاقليم؟.
ثانياً: في حال غاب الضابط السياسي عن الساحة السنية، سيعمّ فيها التشتت والسباق السياسي العبثي الذي بدت ملامحه برغبة عدد كبير الترشح الى الانتخابات النيابية: لم تثبت نظرية حزب "القوات" انه يستطيع وراثة الحريري او قيادة الساحة السنية، كما اظهرت نتائج استطلاعات الرأي.
ثالثاً: سيجد حلفاء الحريري التقليديين انفسهم في احضان القوى السياسية الأخرى، مثلاً سيكون الحزب التقدمي الاشتراكي بحاجة الى "الثنائي الشيعي" او "القوات".
رابعاً: سيروّج سياسيون متشددون لنظرية ان الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة يملأ فراغ غياب الحريري.
خامساً: اذا اثبت غياب الحريري عن لبنان كسراً لمعادلة التوازن الطوائفي السياسي اللبناني الدقيق، فمن يضمن ان تتعاطف معه قوى وازنة لمنع ضرب الساحة السنّية، وتعلن عن مقاطعة الانتخابات فتغيب الميثاقية الوطنية؟.
لذا، يصبح ترشّح "المستقبل" امراً ضرورياً في البعدين اللبناني والعربي. والاّ ستكون كل جهود العواصم التي تحارب التطرف والتشدد قد ذهبت هباء مع الرياح، لأن الساحة اللبنانية وحدها كفيلة بإنتاج وتوزيع المتطرفين في ساحات اقليمية تشكّل بيئة خصبة للتطرف: ألم يقتل الجيش العراقي لبنانيين من طرابلس كانا يقاتلان مع تنظيم "داعش" منذ يومين؟.