يتسابق العالم لتحقيق نهضة تنموية وفكرية علمية واقتصادية في ظل ظروف متسارعة الأمر الذي أدى إلى حدوث ثورات صناعية وتقنية وتكنولوجية وطبية عديدة، إضافة إلى تسابق محموم يجري للحصول على علم المعرفة، التي من شأنها تمكين مالكيها، السيطرة والهيمنة السياسية والاقتصادية والعلمية، والتحكم بالقدرات الانمائية للبلدان النامية ومنها بلدان منطقتنا العربية.
ومع هذا السباق المحموم بين العالم، بقيت بلادنا العربية، بعيدة كل البعد عن اللحاق بركب النمو والتطور العلمي والصناعي، وبالأخص عن علم المعرفة والتقنية في مجال التكنولوجيا والطاقة، التي من شأنها تحقيق نهضة عربية علمية اجتماعية، تسهم في تأمين النمو الاقتصادي والتطور العلمي، الذي يؤدي إلى تحرير القرار السياسي والسيادي، وبالتالي تحرير ثروات بلادنا العربية من الهيمنة الغربية والأميركية.
في عام 1907، عقد في بريطانيا مؤتمر دعا إليه رئيس وزرائها آنذاك كامبل بانرمان، ضمّ وفوداً من سبع دول استعمارية، شارك في جلساته كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول الأوروبيون.
استمرت أعمال المؤتمر طوال عام 1907، بحثاً عن آلية تحفظ التفوق لدول الغرب، بهدف الهيمنة على مقدرات وثروات بلادنا، خصوصاً بعدما تبيّن لبريطانيا أنّ الخطر لا يتأتى من مستعمراتها في الهند والشرق الأقصى وإفريقيا والمحيط الهادي، بل إنّ مصدر الخطر الجدي ماثلٌ في المنطقة العربية، ولاسيّما بعدما أظهر شعبها يقظة سياسية ووعياً قومياً ضد الحكم العثماني والتدخل الأجنبي وضد الهجرة اليهودية.
شرح كامبل بانرمان في المؤتمر الخطورة الكامنة في عوامل عدّة تمتلكها شعوب المنطقة العربية، وهي كما عرضها على خريطة للمنطقة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج حيث قال:
«إن وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والآمال وتزايد السكان، وبوادر التقدم العلمي والصناعي والفني والثقافي والمزيج الحضاري للمجتمع إضافة إلى ثروات طبيعية هائلة كلها تجمعت في منطقة واحدة قد تشكل التهديد الأكبر في سباقنا مع التطور والتقدم والنمو».
مؤتمر بانرمان خرج بتوصية سرية سُمِّيَت «وثيقة كامبل» جاء فيها:
«إن البحر الأبيض المتوسط هو شريان حيوي لأهدافنا لأنه يوصل الشرق بالغرب، ولأنه الممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والإفريقية، وملتقى طرق العالم، ومهد الأديان والحضارات لا مثيل له»، لكن بانرمان أشار إلى أنّ إشكالية هذا الشريان، بأنه يتكون من شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللسان واللغة والثقافة وتنوع الحضارات، كما أوصت الوثيقة بضرورة إسقاط أي قيادة عربية تعمل على تفعيل الوحدة بين دول الشريان، والعمل على فصل الجزء الأفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي، بإقامة كيان أو دولة عازلة عدوّة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية، بُغْيَةَ إسقاط أي محاولة لنهوض الأمة العربية، وإبقائها في حالة من التخلف العلمي والفوضى وعدم الاستقرار والعمل على تقسيمها وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة للدول الاستعمار وخاضعة لسيطرتها.
تطابقت هذه الدعوة مع الدعوة الصهيونية لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين العربية، لتكون هي «الدولة العازلة» يوكَــل إليها فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن الجزء الآسيوي، وللحيلولة دون قيام قيادة عربية تعمل على تحقيق وحدة هذه الشعوب ونموها، ومن هنا جاء وعد بلفور بإقامة الكيان الصهيوني.
صحيح أن بلادنا العربية قد نالت استقلالها عن الانتداب الفرنسي والبريطاني، لكن الفرنسي وبالاشتراك مع البريطاني، وفي حقبة زمنية لاحقة مع الأميركي، عملوا جميعاً على منع أي استقلال تنموي علمي صناعي وتكنولوجي عربي، إلا بالمقدار الذي يبقي الهيمنة الغربية على ثرواتنا العربية، الأمر الذي أبقى القرار السيادي العربي مرتهناً للإرادة وللإدارة الغربية.
إن الحديث عن استقلال بلادنا العربية لا يعدو كونه استقلالاً باهتاً مشروطاً، بحيث أن دولنا العربية صارت مستقلة عن بعضها، وممنوع على بلادنا العربية تحقيق إنشاء السوق العربية المشتركة، أو التعامل بعملة عربية واحدة، أسوة بدول الاتحاد الأوروبي، وممنوع علينا التعامل في بلادنا إلا بعملة الدولار الأميركي، وممنوع علينا تحقيق أي تعاون سياسي اقتصادي صناعي وتنموي وحتى في مجال الغاز والطاقة، وممنوع على ما يسمى بالجامعة العربية، عودة سورية إلى مقعدها الطبيعي، وممنوع تحقيق أي نوع من التكامل أو القومية العربية، سياسيّة كانت أم اقتصادية أم اجتماعية.
في لجة موجة التطبيع العربي مع العدو الإسرائيلي، ومجتمع عربي مشتت، وأجيال عربية ضائعة، وأوطان عربية مزقتها حروب الإرهاب، الممولة عربياً وغربياً، وفي خضم صراع دولي محتدم، يبقى السؤال:
هل من سبيل لتحقيق نهضة عربية؟
إن أي نهضة عربية هي ترجمة لإرادة وعزيمة تتجسّد فيها خطة عمل إستراتيجية وشاملة، لأن النهضة ليست مجرّد قرار سياسي، بل هي إستراتيجية تكاملية بين الدول العربية المتجاورة فيما بينها، تأخذ بالحسبان المتغيرات الإقليمية والدولية، بمعنى أنه بات لزاماً على أي إستراتيجية عربية نهضوية أن تضع في حسبانها المشروع الإسرائيلي، الذي يعمل على توحيد المنطقة من النيل إلى الفرات، عبر ما يُسمّى تارة بالشرق الأوسط الجديد، وتارة عبر ما سمي بـصفقة القرن، أو بالترويج لمشروع «الولايات المتحدة الإبراهيمية» بزعامة إسرائيل، وذلك لاستبدال الهوية العربية بالإبراهيمية ولضمان متطلبات بقاء الكيان الصهيوني مهيمناً على مقدرات وثروات المنطقة وعلى قرارها السياسي.
إن أي مشروع لتحقيق نهضة عربية يجب أن يرتقي إلى مستوى المرحلة التاريخية الراهنة وأهوال الفظائع المأساوية التي تشهدها عواصم عربية مثل سورية والعراق لبنان واليمن وليبيا والسودان وتونس، والتي أضحت جميعها تعاني الفوضى والفقر والجوع والحصار، فتحولت ركاماً بعد سلسلة حروب تدميرية قادتها أميركا وإسرائيل إما مباشرةً أو بالواسطة.
لم نعد نجد في عالمنا العربي من يجرؤ على القول، بأن الحدود بين لبنان وسورية، وبين العراق وسورية، وبين العراق والأردن، وبين فلسطين والأردن، هي حدود مصطنعَة ومفروضة، فأنطون سعادة اغتيل لأنه جاهر بذلك، ثم جاء العدوان الثلاثي الفرنسي البريطاني الإسرائيلي، على مصر جمال عبد الناصر، لأنه أقدمَ على تأميم ثروة قناة السويس، ثم جاء تكالب دول الغرب وبدعم من بعض دول الخليج، بهدف ضرب الوحدة بين مصر وسورية، ومنعوا قيام أي وحدة أو اتحاد بين سورية والعراق.
إننا بحاجة ماسة لمن يجرؤ على اتخاذ قرار استراتيجي للشروع في بناء نظام إقليمي تكاملي يتكون من دول سورية والعراق والأردن ولبنان والجزائر وتونس، تحافظ على ترابط الجزء الآسيوي مع الإفريقي في الشرق الحيوي، تتشابك فيه الرؤى والمصالح والأهداف، وتتبادل فيما بينها خبرات العلم والمعرفة، وصولاً إلى مرحلة التنمية والاكتفاء الذاتي، لتحقيق نهضة عربية تحرر بلاد الإقليم اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً من أي هيمنة غربية، ومن أي عقوبات أميركية جائرة.
إن التكامل الإقليمي، هو الطريق الصحيح لبناء سد منيع، يعطل مفاعيل وثيقة كامبل بانرمان، والكفيل ببناء كاسر لموج التطبيع، ولأي مشروع إسرائيلي يهدف لطمس القضية الفلسطينية، وينهي مشاريع الهيمنة الاستعمارية، ويحقق أماني أجيالنا، بنهضة عربية متكاملة.