عندما تحققت أميركا في العام 2006 من أن «إسرائيل» لن تحقق أهداف عدوانها على لبنان، وتأكدت أن المقاومة صمدت واستعصت على جيش العدوان «الإسرائيلي» الذي شنّ ما أسماه «حرب لبنان الثانية» التي هدف منها إلى تفكيك المقاومة وتجريدها من سلاحها وفرض علاقة مع لبنان، وفقاً لأحكام تشبه اتفاقية 17 أيار للعام 1983، أقول عندما تأكدت أميركا من استحالة تحقق شيء في الميدان مما أرادته «إسرائيل»، سارعت مع فرنسا لوضع مشروع قرار قدّمته إلى مجلس الأمن، توخت بموجبه إعطاء «إسرائيل» في السياسة ما عجزت عن أخذه بالسلاح في الميدان. ولذلك تضمّنت مسودة مشروع القرار بنداً (البند 10) تنشأ بموجبه قوات متعددة الجنسيات للعمل في الجنوب تحت الفصل السابع، بما يشكل سياجاً يحمي «إسرائيل» ويعطل أو يمنع أيّ عمل مقاوم ضدّ احتلالها.
كانت أميركا متيقنة يومها من أن الضغوط المتعددة الأشكال، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، التي تمارس على المقاومة وجمهورها في الداخل ومن الخارج سترغم قيادتها على القبول بوقف الحرب، وفقاً للشروط الأميركية «الإسرائيلية»، التي تعطي المهزوم ما يشاء وتحرم المنتصر ما حقق من مكاسب، وكانت مرتاحة جداً لأداء الحكومة اللبنانية يومها التي اجترح رئيسها السنيورة بدعة ما أسمي «النقاط السبع»، التي تضمّنت في نقطتها الرابعة نزع سلاح المقاومة، ولذلك لم تتردّد أميركا ومعها فرنسا من تقديم مشروع القرار الذي يتضمّن كلّ ذلك إلى مجلس الأمن، الذي رأى أن يستحصل على موافقة الحكومة اللبنانية «وهي مضمونة كما قيل لهم» قبل إقرار القرار.
وهنا كانت الصدمة لأميركا ومن معها من أوروبيين وعرب، ولحكومة السنيورة برئيسها وأغلبية وزرائها، صدمة أحدثها رفض رئيس الجمهورية العماد إميل لحود لهذا التنازل الفظيع، رفض عّبر عنه بقوله في مجلس الوزراء «لا يُعقل أن نعطي «إسرائيل» في السياسة ما عجزت عن أخذه في الميدان»، ومنع الرئيس لحود مجلس الوزراء من الموافقة على العرض، وتمسكت المقاومة بمكتسباتها رافضة أيّ قرار يمسّ سلاحها، ما أدى إلى تعديل مشروع القرار والتحوّل إلى صيغة أقلّ عدائية ضد المقاومة، فكان القرار 1701، الذي صدر تحت الفصل السادس واحتفظ بقوات اليونيفيل بعد أن زاد من عديدها وأدخل عليها قوات بحرية وحدّد مهمتها بـ: «مؤازرة الجيش اللبناني لبسط سيادة الدولة على أراضيها في الجنوب»، بعد أن تتحقق من «إخلاء «إسرائيل» لكلّ أرضٍ لبنانية دخلتها»، كما أناط بالأمين العام للأمم المتحدة مهمة «السعي لإيجاد حلّ لمسالة مزارع شبعا اللبنانية التي تحتلها «إسرائيل»».
وهكذا ولد القرار 1701 الذي، على رغم ما تضمّنه من ثغرات لمصلحة «إسرائيل» ومن عدم توازن، وعلى رغم ميله الفاضح لتحقيق مكاسب «إسرائيلية» على حساب لبنان، لم يعط قوات يونيفيل الحق بالقيام بمهمات أساسية تريدها «إسرائيل»، لم يعطها الحق بالعمل منفردة استقلالاً عن الجيش اللبناني، ولم يعطها حق التفتيش والتعقب داخل وخارج بقعة العمليات المحددة في جنوب الليطاني، ولم يعطها الحق بممارسة أي نوع من الأنواع القتالية وحفظ الأمن، وبالتالي قيّد لجوءها إلى اطلاق النار وحدّده بحالتين فقط: حالة الدفاع المشروع عن النفس، وفقاً لقاعدة التناسب والضرورة، وحالة مؤازرة الجيش اللبناني بناء لطلبه عند قيامه بمهمة عملانية داخل بقعة العمليات.
هذه القيود منعت تحوّل قوات يونيفيل إلى قوات قتالية في مواجهة المقاومة وجمهورها والشعب اللبناني في الجنوب، وفقاً لما تريد «إسرائيل»، ما جعل أميركا غير راضية على الصيغة النهائية للقرار 1701، ولكنها قبلت به وهي تضمر تطويرها بالأمر الواقع الميداني المستتبع لاحقاً بتعديل للنص في مجلس الأمن، وبالفعل حاولت الوحدات العسكرية الجديدة التي التحقت باليونيفيل لتعززها، حاولت فرض الأمر الواقع المطلوب، فاصطدمت بالأهالي وجمهور المقاومة وبالقوى والشخصيات الوطنية، فتراجعت، لكن أميركا بقيت على اصرارها للتعديل الذي تطمح إليه في كلّ مرة يعرض فيها أمر التجديد لليونيفيل. اصرار كان ولا يزال يصطدم برفض لبناني وعدم تأييد دولي كاف لتمريره في مجلس الأمن فيسقط.
لكن أميركا لم تيأس واستمرت منذ العام 2006 قائمة على محاولة التعديل، وعلى رغم الفشل فأنها تكرّر المحاولة، وأخيراً حاولت استغلال الوضع اللبناني الواهن والمتردّي سياسياً ومالياً واقتصادياً، وأوحت للأمين العام للأمم المتحدة بزيارة لبنان حاملاً مطالب ورسائل ظاهرة، وأخرى باطنة وهي الأهم، أما الأولى فتتعلق بالاصلاحات وضرورتها والانتخابات وحتميتها، وبالوضع الاقتصادي ومدى الإلحاح في معالجته لتوفير احتياجات المواطن، وكانت هذه المسائل القناع الذي يخفي الطلبات الحقيقة لأميركا و»إسرائيل»، التي حملها غوتيريش إلى لبنان وتتضمّن:
– تعديل قواعد الاشتباك لليونيفيل بما يحقق رغبة إسرائيلية أميركية عمرها 15 عاماً، وقد عبّر غوتيريش عن الأمر بقوله «وجوب أن تتمتع اليونيفيل بحرية الوصول والعمل الكامل ومن دون عوائق في جميع أنحاء منطقة عملياتها بموجب القرار 1701»، وهو يقصد تمكين اليونيفيل من القيام بالمهام الثلاث التي حجبت عنها بموجب القرار 1701، كما سبق وذكرنا أعلاه «العمل المنفرد المستقل عن الجيش، التفتيش والتعقب، اللجوء إلى القوة لمعالجة ما ترى ضرورة التدخل فيه وفقاً لاستنسابها».
– القفز فوق مزارع شبعا التي قصّر الأمين العام في إيجاد حل لها حتى الآن، وفصلها عن الحدود اللبنانية ومعالجة الوضع على الحدود البرية في شكل يسقط حدود بوليه نيوكمب، ويتمسك بالخط الوهمي المسمّى «الخط الأزرق»، وهو الخط الذي تعمل به الأمم المتحدة خلافاً لقواعد القانون الدولي، من دون أن يقدم أيّ ضمانات حول انسحاب «إسرائيل» من المناطق الـ13 التي تعتدي عليها شمال هذا الخط والحدود.
– معالجة ملف الحدود البحرية بما يلبّي الإملاء الأميركي والمطالب «الإسرائيلية»، وذلك بتراجع لبنان عن خط الـ29 والتفاوض حول الخط 23 مع الإيحاء بامكانية إعطاء لبنان بعض المساحات جنوبي هذا الخط، ليضمن له حقل قانا مقابل ضمان كامل حقل كاريش لـ»إسرائيل».
وقد سرّبت أوساط قريبة من الأمم المتحدة أن غوتيريش سمع إجابات ايجابية من بعض المسؤولين اللبنانيين حول عروضه، من دون أن تصل تلك الاجابات إلى حدّ التزام موثق ومكتوب، بسبب الوضع السياسي المعقد الذي يمرّ به لبنان، لكنه تلقى نوعاً من ضمان أو التزام هذا البعض بتسهيلات ما مستقبلاً.
ويبدو أن غوتيريش أراد أن يختبر جدية ما سمع، أو أراد أن تفرض اليونيفيل وبوجوده في لبنان أمراً واقعاً يحاكي ما تتمناه في النقطة الأولى أعلاه، فأطلقت دورية عملانية إلى شقرا إحدى بلدات الجنوب من دون تنسيق مع الجيش، في مهمة تثير الريبة، ما حمل سكان البلدة على التصدي لها ومنعها من إكمال المهمة، فاضطر الجيش اللبناني للتدخل لإخراج الدورية الإيرلندية من أزقة البلدة وتأمين سلامتها، في مشهد أفهم غوتيريش أن ما ظنه أو ما قد سمعه من بعض المسؤولين لن يصرف في الميدان، حيث أكد الأهالي أن ما لم تستطع مناورات أميركا أن تفرضه في عقد ونصف لن يحققه غوتيريش في يوم ونصف.
أما عن الحدود بشقيها البري والبحري فإنني أعتقد أنّ أحداً من المسؤولين لا يثق بأنه يملك «القدرة أو الامكانية أو حتى النية»، لتلبية مطلب أميركا الذي حمله غوتيريش، وأن حالها عندما يحين وقت التنفيذ الجدي، لن يكون أفضل من حال محاولة تغيير قواعد الاشتباك، إذ أنه على رغم كل ما هو قائم من سوء في لبنان على الصعد الاقتصادية والسياسية والمالية، يبقى هناك عناصر ثلاثة تشكل ضمان الحقوق اللبنانية، في طليعتها الجيش والمقاومة والقوي الوطنية من هذا الشعب، الذي على رغم الجوع والفقر والإذلال لا يزال يحتضن تلك القوى التي تحتضن حقوقه، ما يقود إلى القول إن مهمة غوتيريش في دوافعها ومقاصدها الأصلية لم ولن تتوصل إلى إعطاء «إسرائيل» ما تريد، ولكن يبقى الحذر واجبا فمحاولاتهم لن تتوقف.