في العام 1992، وبغطاء من البطريركيّة المارونيّة، قاطعت القوى المسيحيّة الأساسيّة، الإنتخابات النيابيّة بتبريرات مُختلفة، تبدأ بوجود جيوش إحتلال وقوى مُسلّحة غريبة على كامل الأراضي اللبنانيّة (آنذاك)، ولا تنتهي عند قانون الإنتخاب الذي إعتمد في ذلك الوقت. لكنّ الإنتخابات جرت بمن حضر، وتمثّلت كلّ الأطراف بحُصص مُختلفة، في حين دفع المسيحيّون الثمن الأكبر لهذه المُقاطعة، حيث صاروا مُمثّلين بشخصيّات تابعة ومُلحقة ولا وزن لها على الأرض، بإستثناء قلّة قليلة من النوّاب المسيحيّين الفائزين. واليوم، يدرس رئيس "تيّار المُستقبل" سعد الحريري، بشكل جدّي، خيار عدم المُشاركة بالإنتخابات النيابيّة المُقبلة. فهل يُقاطع "المُستقبل" الإنتخابات، وكيف ستكون الصُورة والنتائج عندها؟.
ينطلق الحريري من طرحه خيار عدم المُشاركة في الإنتخابات، من المُعطيات والوقائع التالية-ولوّ من دون البوح والمُجاهرة بها:
أوّلا: يفتقد "تيّار المُستقبل" للتمويل الداخلي والخارجي على السواء، في ظلّ أزمة معيشيّة وحياتيّة غير مسبوقة تضرب لبنان، الأمر الذي سيؤثّر سلبًا على وجهة تصويت الكثير من الناخبين، حتى من المؤيّدين السابقين للتيّار الأزرق.
ثانيًا: يفتقد "تيّار المُستقبل" بشخص رئيسه، للغطاء الإقليمي الضروري والأساسي من المملكة العربيّة السُعوديّة هذه المرّة، الأمر الذي إنعكس بشكل سلبي على مُجمل حركته السياسيّة، وجعله مُربكًا في خطواته ومواقفه وتموضعاته.
ثالثًا: طبيعة القانون الإنتخابي، إضافة إلى التحالفات غير المَدروسة التي نسجها "تيّار المُستقبل" في خلال الإنتخابات النيابيّة الماضية، أدّت إلى خسارته نصف حجم كتلته تقريبًا. وهذه المرّة، ومع بقاء القانون دون تعديل، وفي ظلّ تأزّم علاقة "المُستقبل" مع الكثير من القوى السياسيّة اللبنانيّة، مثل "التيّار الوطني الحُرّ" و"القوّات اللبنانيّة"، سيكون من الصعب عليه نسج تحالفات مُهمّة خلال الإنتخابات المُقبلة، الأمر الذي يضع علامة إستفهام كبيرة بشأن فرص الحفاظ على حجمه النيابي الحالي.
رابعًا: يُعاني "تيّار المُستقبل" ورئيسه من مُعضلة سياسيّة أساسيّة، فهو من جهة غير قادر على مُجاراة المطالب السُعوديّة السياسيّة المَطلوبة منه، لأنّ ذلك سيضعه في موقع المُواجهة القاسية والمَفتوحة مع "حزب الله" وسيُوتّر الوضع الداخلي بشكل كبير. ومن جهة أخرى هو غير قادر على التماهي كليًا مع الخطط المُستقبليّة لكلّ من "حركة أمل" و"تيّار المردة" و"الحزب التقدمي الإشتراكي" لتكوين السُلطة السياسيّة في لبنان بعد الإنتخابات النيابيّة، وليكون بالتالي جزءًا أساسيًا منها، لأنّ ذلك سيضعه في موقع رمادي ومُهادن للحزب الأصفر، وهذا يُناقض ما تُطالبه به السُعوديّة. وبالتالي، يُواجه الحريري مُشكلة مزدوجة، إن لجهة الوقوف بوجه سلاح "حزب الله"، أو لجهة مُهادنته.
وبالنسبة إلى أبرز تداعيات أيّ قرار بعدم الترشّح وبمُقاطعة الإنتخابات من قبل "تيّار المُستقبل"، فهي تُختصر بالتالي:
أوّلاً: القُوّة الشعبيّة السابقة لتيّار "المُستقبل" ستتفتّت وتتوزّع على أكثر من جهة، منها سيعود إلى شخصيّات مناطقيّة، ومنها ستستحوذ عليه القوى السُنيّة المَحسوبة على محور "المُمانعة"، ومنها ستتقاسمه شخصيّات سياسيّة في موقع الخُصومة لهذا المحور، مثل اللواء المُتقاعد أشرف ريفي على سبيل المثال لا الحصر. كما سيكون لشقيق سعد الأكبر، بهاء الحريري، حصّة غير مَعروفة الحجم بعد من إرث "تيّار المُستقبل"، ناهيك عن "الجماعة الإسلاميّة"، وربّما بعض الشخصيّات التي ستتبنّى خُطاب "الثوّار" الناقمين على كامل الطبقة السياسيّة، إلخ.
ثانيًا: التوازن الداخلي الدقيق في لبنان سيتبدّل بشكل كبير، ولا يُمكن من اليوم معرفة ما ستنتهي إليه الأمور، قبل معرفة الجهات التي سترث "المُستقبل" من الناحية السياسيّة، في حال إصرار الحريري على عدم خوض المعركة الإنتخابيّة، وقبل معرفة قُدرة شقيقه على إستقطاب إرث رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. لكنّ الأكيد أنّ أي طرف سُنّي مُستجدّ، لن يحصد الحجم النيابي والشعبي الذي كان يمتلكه "المُستقبل" في إنتخابات دورتي العام 2005 و2009.
ثالثًا: إنّ الهدف من "مُعاقبة" الحريري من قبل قوى داخليّة وإقليميّة في موقع الخُصومة مع "حزب الله" ومن خلفه إيران، قد يرتدّ سلبًا على هذه القوى في حال مُضيّ الحريري في خيار عدم خوض المعركة الإنتخابيّة، لأنّ المُستفيد الأبرز من تشتّت الجماعة السنيّة، وعدم تكتّلها في قُوّة سياسيّة واحدة ووازنة، سيكون المحور المُقابل بقيادة "الحزب" وليس أيّ طرف آخر، ما لم تحصل مُفاجآت كبرى على مُستوى التصويت الشعبي.
في الختام، القرار النهائي والحاسم بالنسبة إلى مُشاركة "تيّار المُستقبل" ورئيسه في الإنتخابات النيابيّة، سيُتخذ في المُستقبل القريب، لكنّ التردّد المُستمرّ حتى الساعة، إنعكس إرباكًا كبيرًا لدى البيئة الحاضنة للتيّار الأزرق. وفي حال الإصرار على مُقاطعة الإنتخابات، قد يتكرّر الخطأ الذي إرتكبته المَجموعات السياسيّة المسيحيّة في العام 1992، وقد تُصبح الساحة الداخليّة مَفتوحة على مُفاجآت كبرى، الأمر الذي سينعكس أيضًا على مُجمل التوازنات السياسيّة في لبنان.