مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية المقررة بعد أشهر قليلة، من المتوقع ان تنعدم «الجاذبية» الناظمة للعبة السياسية وبالتالي ان تتّسع أكثر فأكثر حالة انعدام الوزن الداخلي التي يغدو معها البلد بوزن الريشة.
من اجل الفوز في الاستحقاق النيابي والبقاء على قيد الحياة السياسية، لن تبقى ضوابط ولا محرمات كما يبدو، بل سيكثر الضرب تحت الزنار وفوقه وستُستخدم الأسلحة المحرمة أخلاقياً ووطنياً على نطاق واسع ولن يعلو صوت فوق أصوات الناخبين في المعارك الانتخابية المنتظرة.
في ظل هذا الاحتقان المرشح لمزيد من التفاقم، اشتدّت حدة التراشق بالاتهامات مع بداية السنة واندلعت موجة جديدة من «العنف الكلامي» على خطوط التماس بين القوى المتخاصمة، علماً ان ما يجري الآن ليس سوى «بروفة» للآتي الأعظم.
ومن حيث انتهى الخطاب الاخير لرئيس الجمهورية ميشال عون، بدأ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل كلمة الاحد التي دشّن بها تحديات السنة الجديدة واستحقاقاتها، محاولاً من خلالها رسم قواعد اشتباك جديدة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وقواعد تفاهم معدلة مع «حزب الله»، ليأتيه رد عنيف من معاون بري النائب علي حسن خليل الذي شن هجوما مضادا على محوري قصر بعبدا وميرنا الشالوحي في آن واحد.
لم يتأخر باسيل، الذي يلعب كرأس حربة ضمن فريق رئيس الجمهورية، في استلام «أسيست» الجنرال ليسدد كرة الغضب في اتجاه مرمى «الثنائي الشيعي»، معبّراً ليس فقط عن موقفه وإنما ايضا عن مكنونات عون الذي لم يعكس عبر خطابه التحذيري سوى قليل مما يختزن في داخله.
وإن كان موقع عون الرئاسي لا يزال يلزمه ببعض المداراة (التي يلوح بالتخلي عنها لاحقاً)، الا ان المطّلعين على حقيقة ما يدور في خاطره يلفتون الى انه يشعر بأن هناك شيئاً ما يتبدّل عند المسيحيين الذين كانوا مؤيدين للمقاومة بلا أي تردد «وعلى «حزب الله» التقاط هذا التبدل والتعامل معه بأقصى جدية قبل ان يصبح تحوّلا يصعب احتواؤه».
ويحذر المواكبون لمراجعات عون من الوصول الى لحظة ينتهي فيها تفاهم مار مخايل لوحده، وبنحو تراكمي، من دون قرار او اعلان رسمي يصدر عن اي من القيادتين بالضرورة «خصوصا اذا زال اقتناع القواعد البرتقالية به وفقد حصانته وحضانته الشعبية، ما يستدعي التعجيل في محاولة تدارك الخطر قبل فوات الأوان».
يعتبر عون انه والتيار أدّيا واجبهما بكامله في حماية السلاح والمقاومة الى درجة فرض عقوبات اميركية على باسيل وفرض حصار خارجي على بعبدا، وفي المقابل هو يشكو من ان الحزب لم يتقيد بواجبه في تطبيق الشق المتعلق ببناء الدولة ضمن تفاهم مار مخايل «لأنه وضع وحدة الطائفة الشيعية فوق مشروع بناء الدولة الذي لم يعد يتحمل مزيدا من التأجيل، خصوصا انه ملف شديد الحساسية بالنسبة إلى المسيحيين».
لا ينكر القريبون من بعبدا دور الحزب المحوري في وصول عون الى رئاسة الجمهورية إنسجاما مع كونه الأكثر تمثيلاً في البيئة المسيحية، الا انهم يلفتون في الوقت نفسه الى انه تبين بعد حين ان كرسي الرئاسة كانت مفخخة «إذ ان عون الذي حاز تارة على اكثرية وزارية وطورا على اكبر كتلة نيابية لم يستطع معظم الاحيان صرف هذا الرصيد، مرة لأنّ صلاحياته الدستورية باتت متواضعة بعد «اتفاق الطائف» ومرات أخرى لأنّ الحليف يعطي الافضلية لاعتبارات الطائفة قبل متطلبات الدولة».
وبينما ولّدت دعوة عون الى اعتماد اللامركزية الادارية والمالية الموسعة «نقزة» لدى البعض ممن وجد فيها استدراجا نحو الفيدرالية المقنّعة، يؤكد الذين واكبوا التحضيرات لخطاب عون انه لم يخرج بهذا الطرح عن جوهر اتفاق الطائف «بل هو قَصد الدفع نحو تطبيق أحد بنوده المهملة والحيوية للمسيحيين، واحتواء المزايدين الداعين ضمن بيئتهم الى الفيدرالية».
اما استحضار الاستراتيجية الدفاعية في هذا التوقيت فهو يُحاكي، من منظار عون، إحدى ركائز ورقة التفاهم وطاولات الحوار، وأهميته في هذا التوقيت انه يسمح، وفق أوساط القصر الجمهوري، بملاقاة اي تسويات اقليمية ودولية يجري تحضيرها «والحزب نفسه هو صاحب المصلحة الاولى في التقاط فرصة تجديد النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية لمواكبة المستجدات المحتملة».
ومن اولويات عون أيضا في هذه المرحلة خطة التعافي التي يشدد على انها تكتسب من الأهمية ما يمنع تركها فقط في تصرف لجنة نيابية او حاكم مصرف لبنان او غيرهما، «وإنما يجب أن تنخرط القيادات السياسية كلها في إقرارها وتغطيتها، إذ وكما كانت الطبقة السياسية مسؤولة عن الانهيار نتيجة الفساد فمن واجبها أيضا ان تكون شريكة في المعالجة لإقناع الداخل والخارج بجديتها».
وفي رأي عون، تبعاً للعارفين، ان من يقرر ان يقاطع الحوار الوطني الذي اقترحه، وسط مرحلة مصيرية كتلك التي يمر فيها حاليا لبنان، عليه ان يتحمل تبعات موقفه وانعكاساته على مشروع الانقاذ.
وينبّه محيط عون الى ان من يقارب مسألة الحوار من زاوية مشكلته الشخصية مع الرئيس هو مخطئ جدا، «ذلك اننا أمام أزمة ضخمة يحتاج التصدي لها إلى تعاون الجميع وترفّعهم عن المناكفات وليس الى قطيعة ومقاطعة».