كانت كل التوقّعات والتكهّنات تتحدّث عن إنخفاض سعر صرف الدولار في مُقابل قيمة العملة الوطنيّة في خلال فترة الأعياد، على أن تعود وترتفع بعدها. لكن هذا الأمر لم يحصل سوى من جهة واحدة، أيّ ٍأنّ الدولار لم ينخفض، بل أخذ في الإرتفاع بعد جُمود لفترة زمنيّة قصيرة، لم تتجاوز الأسبوعين. فما الذي يحصل؟.
إذًا، كان من المُتوقّع أن ينخفض سعر صرف الدولار للأسباب التالية:
أوّلاً: قُدوم مئات آلاف اللبنانيّين الذين يعملون في الخارج، وبخاصة في الخليج العربي والقارة الإفريقيّة، إلى لبنان، وقيامهم بتصريف كميّات كبيرة من الدولارات، بغرض تغطية مصاريفهم خلال فترة الأعياد، إن لجهة القيام بأنشطة ترفيهيّة، أو حتى لجهة دعم أهاليهم ماديًا.
ثانيًا: ضخّ مصرف لبنان كميّات لا بأس بها من الدولارات، لتمكين المصارف من دفع رواتب العديد من المُوظّفين على سعر منصّة صيرفة، علمًا أنّ هذه الفئة من العاملين غير قادرة على تخزين ما تحصَل عليه من دولارات، وتقوم بتصريف العملة الصعبة بشكل فوري لتأمين لُقمة عيشها.
ثالثًا: تأكيد مَعلومات مُتداخلة أنّ شهر كانون الثاني الحالي، سيشهد بداية ظُهور النتائج المَلموسة للمُفاوضات القائمة منذ مدّة بين لبنان من جهة، ومُمثّلي صُندوق النقد الدَولي من جهة أخرى، بما يُوحي باقتراب وُصول جزء من المُساعدات الماليّة المَوعودة إلى لبنان.
وبالتالي، كميّات الدولارات التي رُميت في السُوق كانت كافية لخفض سعر صرف الدولار، ولوّ بشكل طفيف، خاصة في ظلّ مُعطيات إيجابيّة بشأن قرب بدء وُصول الدعم الدَولي. لكنّ هذا الأمر لم يحصل، حيث أنّ هذا السعر تأرجح بحدود 27000 ليرة لبنانيّة لكل دولار لفترة قصيرة، قبل أن يُعاود خطّه التصاعدي، حتى خلال عطلة نهاية الأسبوع، وعطلة الأعياد، وفي الليل كما في النهار، أيّ عندما لا تكون هناك أيّ حركة تجاريّة وماليّة في الأسواق، لا بيعًا ولا شراء! فكيف تقوم مافيات رفع الدولار بهذه الألاعيب؟.
بحسب المَعلومات المُتوفّرة، إنّ العدد الأكبر من الصيارفة الأساسيّين يتبادلون التفاصيل عن حركة الدولار والعملات الأجنبيّة، على منصّات وتطبيقات خاصة بهذا الغرض. ويقوم هؤلاء بطلب شراء وبيع الدولارات على هذه المنصّة، بشكل رقمي، عارضين أسعارًا مُحدّدة، وما أن تتمّ المُوافقة على عمليّة البيع والشراء وفق السعر المَعروض، يُصبح هذا السعر تلقائيًّا السعر المُعتمد لدى الجميع، وكذلك السعر المُتداول في وسائل الإعلام. وبالتالي، يستغلّ عدد من الصيارفة هذه العمليّة لرفع السعر عن طريق القيام بعمليّات بيع وشراء وهميّة في بعض الأحيان. بمعنى آخر، تعرض جهة ماليّة على المنصّة شراء كميّة من الدولارات (مثلاً 20 أو 30 ألف دولار على سعر صرف مُرتفع للدولار)، وتقوم جهة ماليّة أخرى بقُبول العرض، أي بالمُوافقة على بيع الكميّة المَطلوبة من الدولارات على هذا السعر المُرتفع، لكن من دون أن تقوم بتحويل الأموال فعليًا، أي مع الإكتفاء بالإيحاء رقميًا أنّ عمليّة البيع قد تمّت على السعر المُحدّد. فيُصبح هذا السعر المُرتفع، هو السعر المُعتمد لدى محلّات الصيرفة كلّها. وبلغّة الأرقام، عندما يكون سعر الصرف مثلاً على سعر 27000 ليرة، يقوم أحد الصيارفة بعرض شراء كميّة من الدولارات على سعر 27600 ليرة مثلاً، فيقوم صرّاف آخر بالمُوافقة، وبالتأكيد أمام كلّ الصيارفة أنّ عمليّة البيع قد تمّت من قبله، لكنّه لا يقوم بها سوى رقميًا ووهميًا، من دون تحويل أي أموال، أي بالتواطؤ بين هذه الجهات الماليّة المَشبوهة، بهدف تحقيق أكبر قدر مُمكن من الأرباح في أسرع وقت، بمجرّد تحوّل السعر الجديد المَعروض على المنصّة إلى السعر الفعلي المُتداول في السوق.
والغريب أنّ كلّ مُحاولات مُلاحقة الجهات التي تقف خلف هذه المنصّات المَشبوهة قد باءت بالفشل، بحجّة أن لا قُدرة عمليّة للسُلطات اللبنانيّة على وقفها أو حجبها كونها تعمل من خارج لبنان، وبحجّة أنّ سعر الصرف خاضع لمبدأ العرض والطلب المالي، أيّ أنّه بكل بساطة كلّما زاد الطلب على شراء الدولار إرتفع سعره، وكلّما زاد عرض بيع الدولارات في السوق، إنخفض سعر الدولار. والمُشكلة أنّ سعر الصرف المَذكور ليس مُجرّد لعبة بيد مجموعة من الجهات الماليّة المَشبوهة، لتحقيق مكاسب ماديّة هائلة في فترات زمنيّة قصيرة، بل هو مؤشّر لتحديد أسعار كل السلع والخدمات في لبنان، وبالتالي لتحديد مُستوى عيش اللبنانيّين! والإرتفاع الكبير والمُتواصل الحاصل في سعر الصرف، حوّل شرائح واسعة من اللبنانيّين إلى طبقة جديدة من الفقراء غير القادرين على تأمين الحدّ الأدنى من قوتهم اليومي!.
في الختام، ألم يحن الوقت لقيام المسؤولين الرسميّين والسياسيّين بوقف السجالات التافهة، وبتوحيد الجُهود لمُحاولة وقف الإنهيار؟! ألم يحن الوقت لقيام المسؤولين الإقتصاديّين والماليّين بوضع حد لمهزلة مافيات اللعب بسعر الصرف، وبوضع خطّة إنقاذ تُوحي بالثقة؟! والأهم ممّا سبق، ألم يحن الوقت لكثير من اللبنانيّين بوقف تبعيّتهم العمياء والحاقدة لزعماء أثبتوا فشلهم الذريع في الحد الأدنى من إدارة الدولة، ومن تأمين العيش الكريم للشعب اللبناني؟!.