بداية، لا بد من الاشارة الى انّ هذا المقال بعيد عن السياسة، ومن ينتظر ان يقرأ عن المشاكل السياسية التي تحيط بالسياسيين وبحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فلن يحصد شيئاً. ما سيلي يتعلق حصراً بالتعميم الصادر عن المصرف المركزي (الحاكم) والذي يحمل الرقم 161، والي كان الهدف الاساسي منه كبح جماح الدولار ومنع صعوده الصاروخي في مقابل الليرة اللبنانية، التي، من المفترض ان تكون بـ"ألف خير". وغني عن القول انّ التعميم لم يصب هدفه، لا بل حاد عنه بمسافات لا تعد ولا تحصى، وخرق الدولار السقف تلو الآخر في ارتفاعه الجنوني مقابل الليرة اللبنانية.
ولكن، على الرغم من الفشل في اصابة الهدف، كان للمصارف اللبنانية تدابير اخرى، حقّقت فيها اهدافها وتركت المواطنين "يتنعّمون" ببضعة آلاف كسبوها، انما مع تدفيعهم ثمنها اذلالاً واحباطاً.
ما يشاركه المواطنون اللبنانيون من تجارب حول هذا التعميم، تختلف من مصرف الى آخر، مع العلم انه عليهم جميعاً التزام التعميم الصادر عن المصرف المركزي... غير انه في ظل "الفلتان" السائد، اصبح كل مصرف هو المصرف المركزي، لا بل اصبح دولة لا يمكن المساس بها، وقراراته مبرمة، ومن لا يعجبه من المواطنين والمودعين، فما عليه صوى الضرب بعرض الحائط. هكذا، بكل بساطة بات كل مصرف يغنّي على ليلاه في ما خص التعميم الرقم 161، فهذا المصرف مثلاً يلتزم بما جاء في التعميم بشكل تام، وهناك آخر يطلب تعبئة طلب من قبل المواطن ويحيله الى الادارة لتدرسه وتحدد على اساسه المبلغ الذي يمكنه ان يستفيد منه، لتحويله الى دولار وفق سعر المنصة من دون اي تقدير او احترام لما جاء في التعميم، وتشترط فوق ذلك على المستفيد، ان يصرف بما يتبقى في حسابه من أموال بالليرة اللبنانية حصرياً عبر بطاقة الاعتماد، أيّ لا يمكنه ان يسحب باقي المبلغ نقداً (وهنا لا بد من التذكير بأنّ غالبية المتاجر والمحلات ومحطات الوقود والصيدليّات وبعض السوبرماركت توقفت عن استقبال هذا النوع من البطاقات، وباتت تشترط ايضاً ان يتم الدفع نقداً).
لا تنتهي قصص اللبنانيين مع المصارف عند هذا الحدّ، ومن خلال التعميم نفسه، هناك مصارف تشترط على المودع تعبئة الطلب، وتفرض عليه قبوله "بالتقسيط" مقابل مبلغ 100 دولار في الاسبوع، مع شرط عدم القدرة على سحب باقي الاموال بالليرة اللبنانية نقداً. وهناك مصارف اخرى، تفرض مبلغاً معيّناً على المودع وهو صغير (يوازي عند البعض 50 دولاراً اميركياً فقط لا غير) يترافق مع "تمنين" و"تربيح جميلة" بأنها (اي هذه المصارف) ضحّت وسعت لتأمين هذا المبلغ الزهيد. وللقصّة تتمة، فالمواطنون الذين ارتضوا بهذه المصائب والويلات، تعرض قسم كبير منهم لضروب "احتيال" جديدة انما هذه المرة من قبل الصيارفة الذين عادوا الى نغمة "الدولار الأبيض"، ولم يحوّلوا الاموال لمن يحمل هذا النوع من الدولارات، الا بعد اقتطاع "ضريبة" الزاميّة تراوحت بين دولارين وخمسة دولارات (هناك من يقول ان صيارفة تقاضوا منه مبالغ اكبر).
هكذا، وبكل بساطة، اصبح كل مصرف يغني على ليلاه بالنسبة الى تعميم واحد مشترك، فيما يغنّي سلامة على ليلاه ايضاً ويقف متفرّجاً امام هذا الامر، وهو الذي اكّد اكثر من مرة انّ التعاميم هدفها مساعدة المواطنين وضبط سعر صرف الدولار قدر الامكان، متبجّحاً اكثر من مرة انه على المصارف التقيّد بالتعاميم تحت طائلة التعرّض لعقوبات، فيما اثبتت الوقائع ان كلّ ما قيل هو مجرّد كلام في الهواء سرعان ما يمحوه الدولار بصاروخه الاخضر. فلماذا مثلاً لا تلتزم المصارف بتعميم المصرف المركزي وجوب تحويل الاموال الى الطلاّب في الخارج؟ وطالما الدولار موجود في خزائن المصارف، فلماذا لا يُعطى من يملك حساباً بالدولار، بعض امواله ولو "بالتقسيط" ولو بـ200 دولار اسبوعياً او شهرياً؟ لماذا على المصارف ومن خلفها المصرف المركزي، ان يستفيدوا على حساب المواطن في كل شيء، حتى في حقوقه وفي "تمنينهم" له باعادة جزء من امواله، وهل هكذا بالفعل تُحفظ الاموال والتأكيد بالحفاظ عليها؟ وايّ ثقة بعد سيُعاد بناؤها بالقطاع المصرفي اللبناني من جهة وبينه وبين المواطن اللبناني من جهة ثانية؟.