نظريًا وافتراضيًا، بدأ العدّ العكسي للانتخابات النيابيّة المقبلة، ولو أنّ "الحملات" لم تنطلق رسميًا بعد، وأنّ "الانهيار" الذي يتخبّط به اللبنانيون على كلّ المستويات، على وقع تسجيل سعر الدولار المزيد من المعدلات القياسيّة، يجعل التفكير بالاستحقاق "ترفًا"، في وقتٍ ما عاد اللبنانيون بمعظمهم، قادرين على تأمين "قوت يومهم"، بالمعنى الحرفيّ.
لكن، إذا كانت معظم القوى السياسية "مرتبكة" قبل خمسة أشهر من الانتخابات، في ظلّ وجود مناخٍ لا يزال "يشكّك" بحصول الاستحقاق أساسًا، فإنّ "الضبابية" التي تحيط بموقف تيار "المستقبل" تحديدًا تتجاوز حدود "الإرباك"، خصوصًا أنّ النواب والقياديّين فيه "يجهلون" حتى الآن ما إذا كانوا سيدخلون "حلبة المنافسة"، وكيف سيخوضونها.
ومع أنّ مصادر "المستقبل" كانت قد ربطت سابقًا إعلان "الموقف" بتوقيع رئيس الجمهورية على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة والتثبّت من موعد الانتخابات، فإنّ شيئًا لم يُعلَن حتى الآن، في ظلّ "ترقّب" لعودة رئيس التيار سعد الحريري إلى البلاد، والتي كان "المستقبليّون" يتوقّعونها هذا الأسبوع، على أن يعلن "القرار" بعد اجتماعات "قيادية" يعقدها.
وفي انتظار تبلور "موقف" الحريري، على وقع "خيارات متباينة" يقال إنّها "قيد الدرس"، تُطرَح الكثير من علامات الاستفهام حول إمكانية "مقاطعة" الرجل للاستحقاق عن بكرة أبيه، وتبعات ذلك على المشهد العام، في وقتٍ برزت مواقف سياسيّة عدّة في الأيام القليلة الماضية، انطوت على "مفارقات" مثيرة للانتباه، وربما الاستغراب.
من هذه "المفارقات" مثلاً ما صدر عن "خصم" الحريري الأول، رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، الذي بدا أنّه وجّه رسائل "ودية" إلى الحريري، حين تمنّى "مشاركة الممثلين الفعليّين للسنّة"، لأنّ أصوات السنّة "مش للبيع لحدا"، على حدّ قوله، وهو ما اختصره كثيرون بالقول إنّ "باسيل يغازل الحريري"، بعد أن كان من "أخرجه" من المشهد.
وقد تعدّدت التفسيرات لكلام باسيل، بين من اعتبر أنّ الرجل الذي دخل في "خصومات" مع الجميع، وحتى مع المكوّن الشيعي، ملوّحًا بفكّ التفاهم مع "حزب الله"، بات بحاجة لإعادة النظر في علاقاته مع مختلف القوى، ولعلّ التقارب مع المكوّن السنّي، عبر تيار "المستقبل"، قد يكون الأسهل في ذلك، نظرًا لاستحالة "التفاهم" من جديد مع "القوات اللبنانية" مثلاً.
وثمّة من قرأ في الأمر "خشية" من جانب باسيل من "البدلاء المحتملين" للحريري، خصوصًا أنّ "الطامحين لوراثته" أكثر من أن يُعدّوا ويُحصوا، وجلّهم يتقاطع عند رفض خطاب "الاعتدال" الذي تبنّاه "الشيخ سعد" بصورة أو بأخرى، لصالح خطاب أكثر "تشدّدًا وتطرّفًا"، وهو ما لن يكون في صالح رئيس "التيار الوطني الحر" بطبيعة الحال.
لكنّ المقرّبين من باسيل والمحسوبين على "التيار" يتنصّلون من كلّ هذه التفسيرات، ليضعوا كلام الرجل في سياقه المنطقي والطبيعي، وهو الحريص دومًا على "الممثلين الأقوياء لطوائفهم"، وبالتالي فهو لا يمكن أن يكون مع "عزل" الحريري، سواء كان ذاتيًا أو لا، خصوصًا أنّ سلاح "المقاطعة" جُرّب سابقًا، ولم يبدُ "نافعًا" على أيّ مستوى.
أما "المستقبليّون" فيبدو أنّها اختاروا "العزوف" عن التعليق على كلام باسيل، ولو أنّ بعض المحسوبين عليه رحّبوا بما اعتبروها "رسائل ودية"، رغم أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر كثيرًا في المشهد، مشدّدين على أنّه من الجيد أن يكون رئيس "التيار" قد أدرك، ولو متأخّرًا، أنّ تيار "المستقبل" يمثّل "الاعتدال السنّي"، وأنّ لا مجال للقفز فوقه في رسم المعادلات.
وعلى نقيض رسالة باسيل "الودية"، تتجلى "المفارقة الثانية" التي سُجّلت هذا الأسبوع، ربطًا بعودة الحريري المرتقبة، من خلال تصريحات رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي ارتأى الفصل بين "القيادة والقاعدة" في معرض حديثه عن "الأكثرية السنية"، الأمر الذي "استفزّ" قيادات تيار "المستقبل" على ما يبدو، فسارعت إلى الردّ عليه.
وكان لافتًا في هذا السياق ما صدر عن أمين عام تيار "المستقبل" أحمد الحريري الذي وصف جعجع بـ"الحليف السابق"، وتوجّه إليه بـ"نصيحة ببلاش"، قوامها دعوته إلى أن "يلعب في ملعبه كما يشاء، ويعيش الأحلام التي يتمناه"، لكن في المقابل إلى "ترك الأكثرية السنية بحالها والتوقف عن سياسة شق الصفوف بينها وبين قيادتها السياسية".
هنا أيضًا، تعدّدت التفسيرات لخلفيّات هذا السجال المتجدّد بين "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل" في توقيت "ملتبس"، خصوصًا أنّ كلّ المؤشّرات كانت توحي بأنّ "المستقبل" في حال قرّر خوض الاستحقاق الانتخابي، سيكون مضطرًا للتحالف مع "القوات اللبنانية"، رغم كلّ الخلافات، من باب مراعاة "الرغبة الخليجية" بالدرجة الأولى، والتي بات جعجع "خير ممثل" عنها.
وبمُعزَلٍ عن هذا التفصيل، يقول "المستقبليون" إنّ ردّ أحمد الحريري أخذ صدى يفوق حجمه، إلا أنّه كان "لا بدّ منه"، لأنّه لم يكن من الممكن المرور على تصريح جعجع مرور الكرام، معتبرين أنّ الأخير هو "البادئ"، وقد استفزّ جمهورًا عريضًا بتصريحه، وهو أوحى مرّة أخرى بوجود "رهان" لدى جعجع على "إزاحة" الحريري، والإتيان بـ"بدلاء" له.
أما "القواتيون" فيجدون أنّ ردّ الحريري لم يكن "موفَّقًا"، وأنّ كلام جعجع كان عامًا، بل إنّه كان إيجابيًا وليس سلبيًا، وحاول من خلاله الإيحاء بأنّ العلاقة مع المكوّن السنّي لا تزال في أفضل أحوالها، رغم التباين مع القيادة السنية المتمثلة بتيار "المستقبل"، علمًا أنّ جعجع لطالما كان من دعاة إحياء تحالف "14 آذار" بشكل أو بآخر، وليس من يُلام في هذا الإطار.
وبين هذا وذاك، يستمرّ "التجاذب" حول موقف الحريري المُنتظَر من خوض الاستحقاق ككلّ، علمًا أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يرفض "اعتكافه"، وفق بعض التسريبات، حيث يُنقَل عنه أنّه يعتبر عودة الحريري "معركته الشخصية"، في "تناغم" مع موقف باسيل أيضًا، ولو من الناحية "المبدئية" لا أكثر.
في النتيجة، يبدو أنّ الحريري لم يحسم موقفه بعد، وثمّة من يقول إنّ الاعتبارات التي ينطلق منها قد لا تكون "داخلية" بالدرجة الأولى، بقدر ما هي "خارجية"، ومرتبطة بالأسباب التي دفعته إلى الاعتذار عن تشكيل الحكومة، بعد كلّ "المكابرة" التي أبداها، حين تيقّن بوجود "فيتو" خليجي، وسعودي تحديدًا، عليه.
ولعلّ "الغموض" الذي يكتنف موقف الحريري اليوم، يستند إلى المبدأ نفسه، فهو لا يمكن أن يخوض الانتخابات بجدية، طالما أنّ الموقف السعودي منه لم يتغيّر، وهو الذي لطالما كان يعتمد على الرياض بالدرجة الأولى في "حملاته"، وبالتالي فإنّ "الاعتكاف والانسحاب" قد يكون "أضمن" إذا لم يحصل على "مباركتها المسبقة"!.