الأكيد أنّ أيّ مُقاطعة مُحتملة للإنتخابات النيابيّة من قبل "تيّار المُستقبل" ستُخرجه من المُعادلة السياسيّة الداخليّة، ولا شكّ أنّ إستمرار أجواء التردّد والضياع التي تعيشها قيادته مع بدء العدّ العكسي للإنتخابات في مُنتصف أيّار المُقبل، سيُؤثّر سلبًا على قدرات التجييش الشعبي وعلى نسبة الأصوات المُؤيّدة. لكن حتّى لوّ حسم "التيّار الأزرق" خياره بالمُشاركة في الإنتخابات في المُستقبل القريب، وقرّر خوض المعركة الإنتخابيّة بكل قواه، على أن يُعلن رئيسه النائب سعد الحريري هذا القرار بنفسه، في الأسابيع المُقبلة-كما تردّد، فإنّ عدم نسجه خياراته وتحالفاته بشكل مَدروس هذه المرّة، سيُؤدّي به إلى خسائر إنتخابيّة تفوق تلك التي لحقت به في خلال الإنتخابات النيابيّة السابقة سنة 2018.
بداية لا بُد من التذكير أنّ "تيّار المُستقبل" كان حلّ ثالثًا في الإنتخابات النيابيّة الماضية، على مُستوى كلّ من النسب والأصوات التفضيليّة التي حاز عليها مُرشّحوه، إن الذين فازوا أو الذين لم يفوزوا، إن الحزبيّين أو غير الحزبيّين، حيث نال ما مجموعه 256,092 صوتًا، أي ما نسبته 14,56% من إجمالي الأصوات التفضيليّة في كل الدوائر. تذكير أيضًا أنّ "المُستقبل" كان خاض المعركة الإنتخابيّة بما مجموعه 24 مُرشّحًا حزبيًا فاز منهم 13 نائبًا، وبما مجموعه 19 مُرشّحًا حليفًا فاز منهم 7 نوّاب، لتبلغ كتلته النيابيّة 20 نائبًا فقط من أصل 43 مُرشّحًا. وبحسب الدراسات التي أجريت بعد إنتهاء الإنتخابات، تبيّن أنّ "المُستقبل" أفاد من خلال تحالفاته الإنتخابيّة سنة 2018، تيّارات وأحزابًا أخرى، مثل "التيّار الوطني الحُرّ" على سبيل المثال لا الحصر، وأضرّ بحلفاء سابقين مثل "القوات اللبنانيّة" على سبيل المثال لا الحصر أيضًا، من دون أن يجني أيّ فائدة له ولمرشّحيه، الأمر الذي لعب دورًا فاعلاً في تقلّص كتلته النيابيّة إلى نحو نصف ما كانت عليه في نهاية العام 2009.
واليوم، يُواجه "تيّار المُستقبل" أكثر من تحدّ، وما لم ينجح في التعامل بالشكل المُناسب معها كلّها، فإنّه من المُرجّح أن يتلقّى خسائر إنتخابيّة إضافيّة، تفوق تلك التي وقعت في العام 2018. ويُمكن إختصار هذه التحدّيات بالشكل التالي:
أوّلاً: على "المُستقبل" الإنتقال من الخُطاب السياسي الرمادي الذي يعتمده منذ فترة طويلة،إلى شعارات سياسيّة واضحة مَبنيّة على قواعد وعلى إعتبارات قادرة على إقناع جمهوره على المُستوى الداخلي، وقادرة على تأمين الغطاء السياسي والمُعنوي له على المُستوى الإقليمي، وإلا فإنّ الكثير من ناخبيه السابقين سيُصوّتون لمن يُمثّلهم سياسيًا من خارج مظلّة "التيّار الأزرق".
ثانيًا: على "المُستقبل" بناء تحالفات إنتخابيّة مَحسوبة بدقّة، على أن تُبنى وفق قناعات سياسيّة راسخة وعلى قواعد وشعارات مبدئيّة غير مصلحيّة وآنيّة، وإلا فإنّ ورثة "الحريريّة السياسيّة" الكُثر، جاهزون لإستغلال هذه الثغرة، وللتسلّل إلى داخل بيئته الحاضنة.
ثالثًا: على "المُستقبل" إعادة لم شمل مسؤوليه ومؤيّديه، والإستعانة مُجدّدًا بما يُعرف بإسم "صُقور التيّار"، لأنّ ترشيحات "الحمائم" أدّت إلى تسرّب شرائح واسعة من أنصاره ومؤيّديه، إلى أحضان شخصيّات مناطقيّة وإلى أحضان شخصيّات حزبيّة ناشئة، وهذا الأمر سيتكرّر في الإنتخابات المُقبلة في حال إعتماد نفس التكتيك الإنتخابي.
رابعًا: على "المُستقبل" التمييز بين قوى سياسيّة داخليّة تريده أن يكون موجودًا ضُمن المُعادلة السياسيّة اللبنانيّة، لكن بشكل ضعيف وتحت سيطرتها، وأخرى تريده موجودًا بفعاليّة لإعادة إحياء تحالفات سياسيّة وغير طائفيّة، بشكل قادر على مُواجهة المشاريع الإقليميّة التي تُحاك للبنان. وفي حال عدم حُصول ذلك، فإنّ أيّ طُموح بالعودة إلى رئاسة مجلس الوزراء سيكون مَحصورًا فقط برغبة قوى سياسيّة داخليّة مُسيطرة، ولا يعود إلى قرار "التيّار الأزرق" على الإطلاق.
خامسًا: على "المُستقبل" أن يعي أنّ حجم النقمة الشعبيّة من الأوضاع المعيشيّة والحياتيّة الكارثيّة، كبير جدًا على مُستوى كلّ لبنان، وبخاصة ضُمن بيئته الحاضنة، وأيّ إهمال لهذا الواقع، أو أيّ مُعالجة له عبر الوُعود البرّاقة التي لم يتحقّق منها شيء في السابق، سيُؤدّي حتمًا إلى ردّ فعل عكسي، وإلى تصويت مُخالف لتعليمات "التيّار الأزرق".
في الختام، إنّ المعارك الإنتخابيّة في لبنان أو في أيّ مكان آخر في العالم، باتت تُخاض اليوم وفق معايير دقيقة ومُعقّدة، تُحدّد نسب الفوز والخسارة، وحجم النجاح من عدمه. بمعنى آخر، ما لم يتمّ التعويل على إستفتاءات وإحصاءات للأرض، وعلى إستمزاج آراء وأهواء القاعدة الناخبة، وعلى ترشيح شخصيّات تُمثّل ناخبيها وتُلبّي طُموحاتهم، وعلى بناء ونسج تحالفات سياسيّة تستجيب لمطالب البيئة الحاضنة، فإنّ الهزيمة ستكون كبيرة. وهذا ما سيحصل مع تيّار "المُستقبل"، في حال تنكّر لهذه المعايير، وقدّم الإعتبارات العائليّة على المهنيّة، وقام بتنفيذ أهواء وآراء وتوجّهات "وَرَثة الخال"، بدلاً من التصرّف وفق ما تُمليه الإعتبارات الإنتخابيّة الحزبيّة الشديدة التعقيد والحساسيّة والدقّة!.