لم يعد حجم الإنهيار المالي الحاصل حاليًا في لبنان، قابلاً للإستيعاب من قبل أغلبيّة واسعة من الشعب اللبناني التي إنجرفت عُنوة إلى ما تحت خطّ الفقر! فكيف السبيل إلى لجم هذا الإنهيار، أو على الأقلّ إلى إبطاء سرعته الخياليّة؟.
الأكيد أنّ نجاح الجُهود الرامية إلى عقد طاولة للحوار لا يُمثّل الحلّ المَنشود، علمًا أن لا المُقاطعة الواسعة لهذا الحوار تُساهم في إنجاحه، ولا المَواضيع الخلافيّة المَطروحة على طاولة البحث تعد بالوصول سريعًا إلى إستقرار داخلي مَنشود، ولا تجارب جلسات الحوار السابقة التي دامت لسنوات تُعطي أيّ أمل بحلول في المُستقبل القريب!.
وحتى لوّ تنازلت الجهات السياسيّة المُتصارعة عن جزء من مطالبها، وجرى الإلتقاء في موقع وسطي يسمح بعودة مجلس الوزراء إلى الإنعقاد اليوم قبل الغدّ، إنّ إنهيار قيمة العملة الوطنيّة في مُقابل الدولار الأميركي، مُرشّح للتواصل في المدى المَنظور. وأفضل ما يُمكن تحقيقه في حال عادت جلسات مجلس الوزراء إلى الإنتظام، هو تأمين أجواء مَعنويّة إيجابيّة قصيرة المدى، على غرار ما حصل عند تشكيل الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي، عندما إنخفض سعر صرف الدولار إلى حدود 14000 ليرة لبنانية لكل دولار، قبل أن يُعاود إرتفاعه التدريجي مُجدّدًا، بعد إستراحة لم تستمرّ أكثر من بضعة أيّام!.
وهل يُمكن بالتالي أن يكون الحل المَنشود لوقف الإنهيار، مُرتبطًا بالإتفاق مع صُندوق النقد الدَولي؟ الجواب السريع والمُباشر، هو: ليس تمامًا! والسبب أنّ أيّ إتفاق مع البنك الدَولي لفتح باب المُساعدات والقروض الماليّة إلى لبنان، سيكون مُترافقًا مع مزيد من الإجراءات القاسية التي لن يكون وقعها إيجابًا لدى عموم الشعب اللبناني. وأكثر من ذلك، إنّ تنفيذ أيّ إتفاق مع صُندوق النقد يَستوجب وُجود سُلطة سياسيّة مُتكاملة، تملك خُطة عمل صالحة لسنوات عدّة. وهذا الأمر غير مُمكن، مع تواصل العد العكسي للإستحقاقات الإنتخابيّة المُرتقبة، إن النيابيّة أو الرئاسيّة، والتي ستُعيد تركيب السُلطة في لبنان. بمعنى آخر، إنّ الحكومة الحالية، حتى لوّ سلّمنا جدلاً أنّها عادت إلى الإجتماع، وحتى لوّ سلّمنا جدًلا أنّها نجحت في توقيع أيّ إتفاق مع صُندوق النقد، فإنّها غير قادرة على الإيفاء بأي وُعود إصلاحيّة ستتخذها، لأنّها ستتحوّل وفق الدُستور إلى حُكومة تصريف أعمال بعد تنظيم الإنتخابات مُنتصف أيّار المقبل، ما يَستوجب إرجاء تنفيذ أيّ إتفاق إلى الحُكومة المُقبلة التي يُرجّح أن تبصر النور بعد إجراء الإنتخابات الرئاسيّة في خريف العام الحالي!.
وإذا كان وقف الإنهيار غير مُرتبط بطاولة الحوار، وغير مُرجّح مع الحكومة الحالية، وغير قابل للتطبيق حاليًا حتى في حال الإتفاق مع صُندوق النقد، هل يكون الأمل الوحيد المُتبقّي هو بالإنتخابات النيابيّة؟ الجواب السريع والمُباشر، هو: ليس تمامًا، أيضًا! والسبب أنّ مُجرّد إجراء الإنتخابات، لا يعني أنّ التغيير المَنشود قد حصل، بل يجب أن تؤمّن النتائج الإنتخابيّة تغييرًا جذريًا يُوحي بالثقة للبنانيّين، ويُوحي خُصوصًا بالثقة للمُجتمع الدَولي الذي يعتكف حاليًا عن مدّ يد المُساعدة للبنان. وبالتالي، ما لم ينجح الناخب اللبناني بإحداث تغييرات كبرى على مُستوى مُمثّليه، تمهيدًا لإحداث تغيير لا يقلّ أهميّة على مُستوى رئاسة الجُمهوريّة، وكامل السُلطة التي ترافق كلّ عهد رئاسي جديد، فإنّ الأمور غير مُرشّحة لأنّ تتحوّل من الأسود إلى الأبيض بين ليلة وضُحاها. صحيح أنّ إنتخاب أيّ سُلطة جديدة، سيُؤمّن فترة سماح، وسيُؤمّن أجواء إيجابيّة قد تُخفّض سعر الدولار لبعض الوقت، لكنّ وقف الإنهيار يحتاج إلى إجراءات أخرى مُستدامة وأكثر فاعليّة.
وفي هذا السياق، إنّ وقف الإنهيار الحالي يَستوجب أوّلاً فتح صفحة جديدة على مُستوى كامل السُلطة في لبنان، الأمر الذي قد يُعيد بناء بعض الثقة للمُستثمرين. ويستوجب ثانيًا أن تقوم السُلطة المُنتخبة المُقبلة بالعمل على تنفيذ خُطة إنقاذ شاملة وخُطة إصلاحية مُتكاملة، بالتعاون والتنسيق مع صُندوق النقد الدَولي ومع المُجتمع الدَولي، الأمر الذي قد يفتح باب المُساعدات الماليّة الدَوليّة. ويَستوجب ثالثًا أن يخرج لبنان من وُحول الصراعات الإقليميّة والدَوليّة، وأن لا يُورّطه أيّ طرف داخلي في أيّ صراع خارج أراضيه، الأمر الذي من شأنه أن يعيده إلى الخارطة العربيّة والعالميّة. وبغير هذا الطريق الطويل وغير السهل، لا قيامة مُرتقبة للبنان. وأقصى ما يُمكن تحقيقه، عبر إجراءات الترقيع هنا أو هناك، هو إبطاء سرعة إرتفاع الدولار لفترات قصيرة، وتأخير السُقوط الشامل والنهائي لمزيد من الوقت!.
والسؤال الذي يفرض نفسه في الختام، هو: ماذا تنتظر السُلطة للشروع في طريق النهوض، بدلاً من التلهّي بالصراعات المَفتوحة لحصد نائب هنا، ولتغيير قاض هناك، ولتحجيم زعيم هنالك، بينما الشعب اللبناني يئنّ تحت وطأة الفقر والجوع؟!.