بعد تجميد جلسات مجلس الوزراء لأشهر عدّة، بسبب تهديد مُمثّلي "الثنائي الشيعي" بالإستقالة في حال دعوة المجلس للإنعقاد، قبل إزاحة القاضي طارق البيطار بشكل تام ونهائي عن ملفّ تفجير المرفأ، مع كل ما ترتّب على هذا الموقف من تداعيات إقتصاديّة وماليّة على لبنان واللبنانيّين، قرّر "الثنائي" بشكل مُفاجئ المُشاركة في جلسات الحُكومة، وهما برّرا قرارهما بأسباب مُوجبة، وربطا هذه العودة بجدول مُحدّد من البُنود. فما الذي حصل وأسفر عن هذا التراجع المُفاجئ عن قرارات حازمة سابقة، وما هي الإرتدادات المُتوقّعة على المُستويات السياسيّة والماليّة؟.
كالعادة، ومع كل حدث في لبنان تخرج إلى العلن سلسلة من النظريّات التحليليّة لتفسير ما حصل، وهذه المرّة جاءت النظريّات على الشكل التالي:
أوّلاً: نظريّة تقول إنّ المُحادثات في شأن الملفّ النووي الإيراني، شهدت تقدّمًا إيجابيًا كبيرًا، والحرب في اليمن شهدت تغييرات ميدانيّة مُهمّة أيضًا، الأمر الذي إنعكس بداية حلحلة للملفّ اللبناني، خاصة وأنّه من الضروري أن يكون مجلس الوزراء بحالة إنعقاد لمُواكبة تطوّرات مُهمّة جدًا إقليميًا، وأخرى داخليّة سيشهدها ملف مفاوضات ترسيم الحدود الجنوبيّة في الأسابيع القليلة المُقبلة.
ثانيًا: نظريّة تقول إنّ أسباب وقف المُقاطعة داخليّة بحت ولا علاقة لها بالملفّات الخارجيّة، وهي مُرتبطة بسببين رئيسَين: أحدهما الإنهيار الإقتصادي-المالي الذي كان قد تفاقم كثيرًا في الأسابيع القليلة الماضية، وإتجاه مُتزايد لتحميل "الثنائي الشيعي" مسؤوليّة هذا الأمر، وبالتالي لإستغلال هذا الملفّ ضُدّهما عشيّة الإنتخابات النيابيّة. والسبب الرئيس الآخر مُرتبط بوُصول العلاقة بين "التيّار الوطني الحُرّ" و"حزب الله" إلى مرحلة من التوتّر لا تخدم المَصلحة الإستراتيجيّة المُشتركة، ولا الأهداف التي يضعها "الحزب" للإحتفاظ بالأغلبيّة النيابيّة في المعركة الإنتخابيّة النيابيّة المُرتقبة في أيّار المُقبل.
ثالثًا: نظريّة ثالثة تقول إنّ هذه العَودة جاءت بعد التوصّل إلى إتفاق تحت الطاولة، لا يُمكن الإعلان عنه أمام الرأي العام، لجهة مُوافقة "الثنائي" على العَودة إلى طاولة مجلس الوزراء، في مُقابل إخراج القاضي طارق البيطار تدريجًا من ملف تحقيقات إنفجار الرابع من آب. إشارة إلى أنّ دعاوى الردّ المُتوالية بحق المُحقّق العدلي في قضيّة إنفجار مرفأ بيروت شلّت قُدرته على مُواصلة التحقيق، والفراغ في العديد من المناصب القضائيّة حال دون تمكّنه من إصدار أيّ قرار ظنّي بسبب ضرورة بتّ القضايا القضائيّة بحقّه قبل ذلك، وهو أمر مُتعذّر حاليًا. بمعنى آخر، إنّ القاضي المذكور عاجز عمليًا عن مُتابعة السير بالتحقيق، وهذا كان كافيًا بالنسبة إلى "الثنائي" للعودة إلى طاولة مجلس الوزراء، من دون إقالته من منصبه في هذه المرحلة، بل بعد حين، حتى لا تُستخدم هذه الخُطوة ضُدّ "التيّار الوطني الحُرّ" خلال الإنتخابات النيابيّة ضُمن البيئة المسيحيّة الناخبة.
رابعًا: نظريّة رابعة تقول إنّ عودة "الثنائي" إلى طاولة مجلس الوزراء مَشروطة، وهي مَحصورة بمسألة إقرار المُوازنة وخُطّة التعافي، أي بملفّات أساسيّة تؤثّر مُباشرة على أمور حياتيّة ومعيشيّة للبنانيّين. وبالتالي هذه العَودةقد تستمرّ لبضع جلسات تكون كافية لتمرير ما هو مُهم وأساسي من بُنود تخدم مُباشرة مصالح اللبنانيّين الماليّة فحسب، لكن من دون التطرّق إلى ملفّات أخرى عالقة، ومنها مثلاً ملفّ التعيينات في العديد من مراكز الدولة والمؤسّسات التي شغرت في المرحلة الأخيرة.
وبغضّ النظر عن مدى دقّة هذه النظريّات وعن مدى صحّة كل منها، الأكيد أنّ خُطوة "الثنائي" ستترك إنعكاسات إيجابيّة على الوضع الداخلي، لكن لمرحلة زمنيّة مَحدودة وقصيرة. وبالتالي، فور الإنتهاء قريبًا من تحضير مُوازنة العام 2022، سينعقد مجلس الوزراء لمُتابعة الإجراءات القانونيّة لإقرارها على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، وسيتخذ قرارات صارت أكثر من مُلحّة وضروريّة لإستمرار عمل بعض القطاعات الحيويّة، ولتمكين المُواطنين اللبنانيّين من الصُمود حتى موعد الإنتخابات النيابيّة. وفي هذه الأثناء، سيبقى سعر صرف الدولار عرضة للإرتفاع والهبوط، ليس بفعل المُضاربات التجاريّة غير الشرعيّة، ولا بنتيجة إنجراف المُواطنين تلقائيًا في مَوجات الشراء والبيع فحسب، بل أيضًا بسبب تطوّرات مُحتملة يُمكن أن تؤثّر سلبًا أم إيجابًا على سعر الصرف، مثل وجهة المُفاوضات مع صندوق النقد الدَولي المُرتبطة بمسألة وُصول المُساعدات الماليّة إلى لبنان، وكذلك وجهة المفاوضات بشأن ترسيم الحدود المُرتبطة بمسألة إستخراج النفط وتحوّل لبنان إلى بلد نفطي، إلخ.
في الختام، ولأنّنا نعيش في زمن غريب عجيب، صار على اللبنانيّين أن يُهلّلوا ويَفرحُوا لعودة مجلس الوزراء إلى الإنعقاد، ولوّ بشكل مُجتزأ ومَشروط، علمًا أن هذا الأمر هو بديهي ومن أبسط واجبات المَسؤولين الغائبين عن وجع الناس وعن مشاكل وآلام الشعب. ويبقى الأمل أن تكون الإنتخابات النيابيّة فرصة للمُحاسبة من قبل الناخبين للمسؤولين عن حياتهم ومعيشتهم، وليس مُجرّد منُاسبةلتمديدغرائزي أعمى،لوكالات سياسيّة وطائفيّة جعلت لبنان يتقهقر إلى الحضيض، وحوّلت شرائح واسعة من الشعب اللبناني إلى باحثين يائسين عن فُتات طعام يسدّ جوعهم وجوع عائلاتهم!.