فيما كان بعض قياديّي "حزب الله" و"حركة أمل" يرفعون سقف التصعيد والتحدّي، جازمين بأنّ "خريطة الطريق" واضحة، وقوامها "معالجة" وضع المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، جاء قرار قيادة "الثنائي" المفاجئ بالعودة عن قرار مقاطعة جلسات مجلس الوزراء، من خلال بيان رسميّ مشترك.
في بيانه، كان لافتًا تعمّد ثنائي "حزب الله" و"أمل" حصر قرار العودة عن المقاطعة ببندي "الموازنة وخطة التعافي المالي"، وكأنّه "فيتو مسبق" على التعيينات، خصوصًا أنّ أوساطه أكدت "انفتاحه" على أيّ ملفات اقتصادية واجتماعية يمكن أن تطرأ، كما جدّد انتقاده للمحقق العدلي، متحدّثًا مرّة أخرى عن "تسييس مفضوح واستنسابية" إلى آخره.
صحيح أنّ "الثنائي" برّر قراره، الذي وُصِف بـ"التراجع التكتيكي"، بـ"حاجات المواطنين الشرفاء"، ووضعه في خانة "تلبية نداءات القطاعات الاقتصادية والمهنية والنقابية"، بل اعتبره دحضًا "لاتهامنا الباطل بالتعطيل"، كثرت علامات الاستفهام حول الخلفيّات الحقيقيّة للقرار، فلماذا اتّخذه الآن، طالما أنّ كلّ الأسباب الموجبة المُعلَنة تعود إلى ما قبل المقاطعة أصلاً؟.
كثيرة هي "الفرضيّات" التي طُرِحت على الطاولة، حول "الدوافع" التي حفّزت "الثنائيّ" إلى اتخاذ قراره في هذا الوقت، بعضها بدا مُبالَغًا به، وبالتالي مُستبعَدًا، فيما قد يحتاج بعضها الآخر لبعض الوقت، ريثما يتّضح مدى "واقعيّته"، خصوصًا ما يتعلق منه بـ"صفقة" و"تسوية"، سارع كلّ المعنيّين إلى نفيه بالشكل والمضمون.
لعل الفرضية الأولى التي طُرحت كانت، على جري العادة، ربط ما يحدث بتطورات الإقليم المتسارعة، استنادًا إلى الرأي "الثابت" أنّ لبنان ليس جزيرة معزولة، وكلّ ما يحصل فيه مرتبط "بالضرورة" بما يجري في الخارج. وبالتالي، كان من الطبيعي، لأصحاب وجهة النظر هذه، أن يربطوا بين قرار الثنائي" والمناخ الإقليميّ "غير المتوتر".
ويشير المقتنعون بهذا الرأي إلى أنّ "تزامن" هذا التطور غير المحسوب، مع الأجواء الإيجابية "المنبعثة" من فيينا، حيث تدور مفاوضات الاتفاق النووي منذ أشهر، ليس "محض صدفة"، فكيف إذا جاء متزامنًا أيضًا مع أجواء "تقدّم" على خطّ المفاوضات بين السعودية وإيران، والذي وصل إلى حدّ الحديث عن إعادة العلاقات الثنائية وفتح السفارات بين البلدين.
لكنّ المطّلعين على الوضع الحكومي، بمن فيهم المحسوبون على "الثنائي"، نفى هذه "الفرضيّة" جملةً وتفصيلاً، باعتبار أنّها أصبحت من "عدّة الشغل" لبنانيًا، حيث تُربَط كلّ الاستحقاقات بما يجري في الخارج، ولكنّها افتقدت كلّ مقوّماتها في الآونة الأخيرة، علمًا أنّ قرار المقاطعة جاء أصلاً فيما كانت الأجواء الإقليمية غير "متوترة" بالحدّ الأدنى.
من هنا، بدأ الحديث عن "صفقة" خلف قرار ثنائي "حزب الله" و"أمل"، قد تكون "طُبِخت" خلف الكواليس، وحافظ "طبّاخوها" على "سرّها" حتى لا يصيبها ما أصاب "سوابقها"، إلا أنّ هذه الفرضية اصطدمت على ما يبدو لا بنفي المعنيّين فحسب، ولكن بغياب أيّ مؤشّرات تدل على حلّ أيّ من "العُقَد"، فضلاً عن غياب ملف التعيينات عن متنها، ولو أنّ البعض يدعو إلى انتظار بعض الوقت قبل "الحكم" سلفًا عليها.
تبقى "الفرضية" الأكثر واقعية، والتي تتقاطع عندها معظم القراءات، وقوامها أنّ ثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" وصل بالفعل إلى نقطة "اللاعودة"، وهو شعر أنّ قراره بمقاطعة جلسات مجلس الوزراء بات "يحاصره" قبل كلّ شيء، بعدما وُضِع في موضع الاتهام، فيما الانهيار الاقتصادي والمالي يتفاقم، وهو لذلك يحاول منذ فترة التفتيش عن "مَخرَج"، الذي قد يكون وجده في القول إنّ القاضي بيطار بات "مكفوف اليد" عمليًا.
ولعلّ ما يزيد من "واقعية" هذا الطرح أنّ البيئة الحاضنة لـ"الثنائي" نفسها بدأت "تتمرّد"، فحتى لو كانت "تبرئ" قيادتها من المسؤولية عن الانهيار، وتعتقد أنّ وجود مجلس الوزراء لن يغيّر من واقع الأمر شيئًا، ولن يوفّر "الحلّ السحري" المُنتظَر، إلا أنّها ترى أيضًا أنّ الثنائيّ "يجلد نفسه بنفسه" من خلال إصراره على مقاطعة جلسات مجلس الوزراء، ما يدفع الجميع إلى توجيه أصابع الاتهام له بتعطيل خطّة الإنقاذ الموعودة.
وثمّة من يضيف إلى هذا البُعد، بُعدًا آخر مرتبطًا بالعلاقة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، ومن خلاله "العهد" بصورة عامة، وهي علاقة لا يخفى على أحد حجم "التدهور" الذي أصابها في الآونة الأخيرة، حيث لا يتوانى "التيار" عن توجيه الاتهامات بالجملة والمفرّق إلى "الحزب"، حتى أنّه لوّح بفكّ ورقة "التفاهم" التي أبرمها معه، وهي اتهامات لم يعرف الحزب كيف يتعامل معها، سوى على طريقة "التطنيش" التي لم تُجدِ نفعًا.
ولعلّ ما زاد من "انزعاج" الحزب في هذا الإطار، شعوره أنّ "دعمه" لمبادرة رئيس الجمهورية ميشال عون لم يرطّب الأجواء، فخرج الوزير جبران باسيل ليعلن أن "لا مَوْنة" لديه على الحزب من قصر بعبدا، قبل أن "يشمله" الرئيس عون بهجومه على مقاطعي الحوار في نهاية الحولات التشاورية، متحدّثًا عن "جريمة لا تغتفر بحق الشعب" يرتكبها هؤلاء الذين يصرّون على تعطيل المؤسسات، وعلى رأسها مجلس الوزراء.
عمومًا، أيًا كانت الفرضيّة الصحيحة، فإنّ الأكيد أنّ ما حصل هو "تراجع تكتيكي" لـ"حزب الله" و"أمل"، فحتى لو صحّ ما قالاه في بيانهما المشترك، عن "مصلحة المواطنين الشرفاء"، فإنّ ذلك برأي كثيرين "يدينهما"، لأنّه قد يشكّل "إقرارًا ضمنيًا" بأنّهما تغاضيا عن هذه المصلحة في الفترة الأخيرة، علمًا أنّ تسجيل الدولار مستويات قياسيّة وصلت إلى 30 ألف ليرة لم يحرّك ساكنًا لديهما، حتى إنّ توقيت مبادرتهما جاء بعدما بدأ الدولار ينخفض، لا العكس.
لعل الحقيقة أنّ "الثنائي" شعر أنّ خطوة المقاطعة لم تكن "موفّقة"، وأنّ محاولته "فرض" تغيير القاضي بـ"القوة" لم تكن "مناسبة"، أو لعلّه خشي من "الآتي الأعظم"، والاتهامات "الجاهزة" التي ستُوجَّه له بالمسؤولية عن الانهيار الذي يبدو بلا أفق. في كلّ الأحوال، المطلوب "استنفار سريع" لتعويض الوقت الضائع، وهو ما لم "تبشّر" به الأخبار الشائعة عن أنّ الحكومة لن تنعقد هذا الأسبوع!.