كلّ القرارات التي يتخذها "حزب الله"، إن على المُستوى الداخلي أو الخارجي، هي إستراتيجيّة الطابع، منذ أن قرّر الإنضمام إلى الحكومات اللبنانيّة بعد العام 2005، لإستخدام ورقة الميثاقيّة بوجه الأغلبيّة الحاكمة آنذاك، مُرورًا بمُختلف الوسائل التي إعتمدها لمنع قوى "14 آذار" السابقة من الحُكم، وُصولاً إلى طبيعة تحضيراته للإنتخابات النيابيّة المُقبلة، والتي يعمل على أن يبقى مُمسكًا بأغلبيّة عدديّة فيها. في المُقابل، وعلى الرغم من أنّ خُصوم "الحزب" يتّهمونه بأنّه بات الحاكم الفعلي للبنان، بمنطق القُوّة والسلاح والفرض، ويطمحون لتغيير هذا الواقع، فإنّهم يُواجهونه بشكل ضعيف ومُشتّت! ماذا في التفاصيل؟
"حزب الله" حريص على أنّ تأتي نتائج الإنتخابات النيابيّة لصالحه، ولصالح الفريق السياسي الذي يقوده في لبنان. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: سيعمل "حزب الله" على أن يحصد بالتكافل والتضامن مع "حركة أمل"،كلّ المقاعد النيابيّة المُخصّصة للطائفة الشيعيّة، لأنّه يعرف أنّ أيّ تراجع في هذا السياق، سيفتح الباب على نُشوء نواة تمايز وربّما مُعارضة داخل البيئة الشيعيّة، يُمكن أن تتحوّل مع الوقت إلى ظاهرة تمثيليّة في المُستقبل، خاصة في حال دعمها من قبل جهات داخليّة وخارجيّة، وهو ما لا يقبل "الحزب" به، وسيعمل جاهدًا على منع حُصوله. وفي الأسابيع والأشهر القليلة الفاصلة عن الإنتخابات، سيحشد "الحزب" كل طاقاته لهذه الغاية، بالتزامن مع التركيز على الطابع السياسي للمعركة الإنتخابيّة، وُصولاً ربما إلى إصدار فتاوى تحثّ الناخبين على التصويت لصالح "الثنائي الشيعي".
ثانيًا: سيعمل "حزب الله" على أن لا يقلّ عدد نوّاب القوى والشخصيّات المُصنّفة في خانة "محور المُقاومة والمُمانعة"، عن 43 نائبًا في مجلس النوّاب المُقبل، ليكون قادرًا في أيّ وقت، على مُواجهة القرارات والقوانين المُهمّة، وحتى على تفشيل أي جلسةأساسيّة، في حال رغب بذلك، بإعتبار أنّ الدُستور اللبناني ينصّ على ضرورة حُضور ثلثي عدد مجلس النواب على الأقلّ في بعض الجلسات، وفي بعض حالات التصويت. ويُتوقّع أن تخدم طبيعة اللوائح التي سيتمّ تركيبها، ووجهة تصويت الناخب الشيعي في مُختلف الدوائر، هذا الهدف الإستراتيجي.
ثالثًا: سيعمل "حزب الله" على أن يتمكّن "التيّار الوطني الحُرّ" من الفوز بكتلة نيابيّة وازنة، على الرغم من العلاقة غير السليمة ظاهريًا بين الطرفين في المرحلة الحاليّة. وبالتالي، كل التباينات والخلافات مع "التيّار البرتقالي"، ستسقط عشيّة الإنتخابات، لأنّ "الحزب" يريد أن يحتفظ بالأغلبيّة النيابيّة العدديّة التي يملكها حاليًا بالتحالف مع "التيّار الوطني الحُر". وبالتالي، من المُنتظر أن يتمّ في المرحلة المُقبلة، عودة التنسيق الإنتخابي بين "الحزب" و"التيّار"، كما حصل في الدورات الإنتخابيّة السابقة، حتى لوّ خاضا المعركة الإنتخابيّة على لوائح مُتعدّدة في بعض الدوائر، وذلك بهدف أن يكون عدد نوّاب كلّ من "التيّار"وقوى "8 آذار" السابقة بقيادة "حزب الله"، أكثر من 65 نائبًا. والهدف الإستراتيجي طبعًا، هو الإمساك بالأغلبيّة النيابيّة، بما يسمح بالسيطرة على مجلس النوّاب، وبالتالي بتحديد كلّ القوانين والتشريعات التي ستصدر عنه، وبتحديد إسم رئيس الجمهوريّة الذي يُفترض إنتخابه نهاية العام الحالي.
في المُقابل، إنّ خُصوم "حزب الله" الذي يلتقون على أنّ "الحزب" يحكم لبنان بقُوّة سلاحه، وعلى أنّه نقل لبنان من وضع إلى آخر، ومن تموضع إلى آخر، ما يستوجب التصدّي له، قبل فوات الأوان بشكل نهائي، ما زالوا غارقين في خلافاتهم وإنقساماتهم، بشكل سيُؤدّي إلى خوض كل جهة منهم الإنتخابات وفق أهداف حزبيّة ومصلحيّة ضيّقة. وفي هذا السياق، إنّ همّ "الحزب التقدّمي الإشتراكي" مثلاً هو أن يحفظ موقعه ونُفوذه ضُمن التركيبة اللبنانيّة، حتى لوّ إضطرّ إلى التنسيق مع حركة "أمل" وإلى إنتخاب مُرشّحها الرئاسي. وهدف حزب "الكتائب اللبنانيّة" مثلاً هو إستعادة مجد ضائع، وإعادة رفع العدد الإجمالي لنوّاب "الكتائب"، ولوّ من موقع الخُصومة مع باقي القوى الحزبيّة التي يلتقي معها بالأهداف الإستراتيجيّة الكُبرى. ومن الأمثلة على ضياع وإرباك خُصوم "حزب الله"، ما يحصل على مُستوى "تيّار المُستقبل" وقيادته، وبين هذا الأخير وحزب "القوّات اللبنانيّة"، إلخ. علمًا أنّ مُواجهة مشروع "الحزب" الإستراتيجي، لا يُمكن أن تتمّ بشكل إفرادي من قبل أيّ جهة، مهما بلغ حجمها، ويستوجب تجميع مُختلف القوىتحت عناوين مُشتركة.
حتى أنّ الجماعات والهيئات والشخصيّات التي تُصنّف نفسها "مُعارضة للمَنظومة الحاكمة"، لا تزال حتى هذه اللحظة غير مُوحّدة، لا على رؤية جامعة ولا على برنامج واحد، ما يُهدّد بأن تخوض هذه القوى المعركة الإنتخابيّة مُوزّعة على أكثر من لائحة، بشكل قد يؤدّي إلى تشتّت أصوات الناخبين الطامحين بالتغيير الكبير، بعيدًا عن التكتلات والقوى الحزبيّة التقليديّةوالمَعروفة.
في الخُلاصة، يُمكن القول إنّ "حزب الله" ماض قُدمًا بنقل لبنان من مكان إلى آخر، وخُصومه يُعانون من إنقسامات خطيرة تزيد من ضُعف القُدرة على مُواجهته، مع التذكير أنّه حتّى عندما كان هؤلاء الخُصوم مُوحّدين تحت راية "14 آذار"، كان من الصعب جدًا مُواجهة "الحزب" الذي إستخدم كل الوسائل لإضعافهم وتشتيتهم، في خلال حقبة سوداء وصعبة مرّ فيها لبنان بأشدّ مراحل الإنقسام، وبأقسى موجات التفجيرات والإغتيالات الغادرة، والتي إمتدّت على مدى عقد كامل. ومن الضروري الإشارة أيضًا إلى أنّ شرائح واسعة من اللبنانيّين، باتت في موقع الرافضلكل ما له علاقة بالأحزاب والتيّارات، وبالسياسة بشقّيها الحزبي الضيّق والإستراتيجي العريض، وتطمح بأن تعيش حياة كريمة وطبيعيّة لا أكثر، حتى لو خارج لبنان! وما لم تُشارك هذه الشرائح في الإقتراع بفعاليّة، فإنّ المعركة الإنتخابيّة ستكون بين القوى السياسيّة المَعروفة نفسها، والحصّة الكبرى من النوّاب أيضًا.