لا يَكفي أن تَكونَ لُبنانيَّاً! هذا غَيضُ إستحقاقٍ، فَيضُهُ أن تَكونَ أكثر: أن تَكونَ لبنانَويِّاً.
أَفي ذلك عِشقٌ أكبر لِتُرابٍ وأرضٍ هي مِن وعدٍ وتاريخٍ وضميرٍ؟ بل أكثَر: في ذلك نَذرٌ عليكَ أن تَفِيهِ، في السَرَّاء والضَرَّاء، وَجهاً لوَجهٍ، لِهَذا الذي أنتَ مِنهُ، ولولاه لَمَا كُنتَ، وبِدونِهِ أنتَ لا تكونُ أبداً أنت.
أَفي ذلكَ عِبءٌ؟ لن أُصَدِّق!.
بَينَكَ وبَينَ لبنان، إجعَل رَابِطَكَ التَحَابُّ. إذ ذاكَ تُدرِك أنَّ إيفاءَ نَذرِكَ له، لَمَشرُوعُ حياةٍ عظيمٍ. لَهُ سُبُل أهلِ ألأرضِ، وبِهِ بَرَكَةُ أهلِ السماء. فأنتَ ولبنان، لا وحدَكما، بل معكُما الأرضُ وفيها مواعيدُ الدهورِ، والسماءُ وفيها تَكَاليفُ السُموِّ.
هَلُّمَ لتُدرِكَ ذاك المَطمَعَ الهائل الذي أنتَ مُكلَّفٌ بِهِ، في الوجودِ والحضورِ، في الحياةِ وما بعدها، في القِيَمِ ومِا إليها، فَتُدرِكَ للتوِّ أنَّكَ أنتَ الأعجوبَةُ وهو صَانِعُهَا.
أجل! لبنانُ، الذي كَتَبَ فيه ياقوت الحموي أنَّه يجيء مِن بين مَكَّة والمدينة، وكان قَبلَهُ شاعِرُ نَشيد الأنشادِ هَتَفَ لِعَروسِهِ: هَلُّمي مَعي مِن لبنان، من جبال الأُسودِ، فتَتَكَلَّلي، أطلَقَكَ لَهَذا المَطمَعِ كُلَّهِ. وهو لا يَنتَظِرُ مِنكَ مُقابِلاً سوى أن تُدرِكَهُ في ذاتِهِ، أيّ في حقيقتِهِ على أنَّه الحقيقةُ التاريخيَّةُ والجغرافيَّةُ، وكلّ ما جاوَرَهُ في الجغرافيا والتاريخ ليسَ مِنها بل تائِقٌ إليها ولا يبلُغُهَا، تلكَ الحقيقةُ المزنِّرَةُ لقِمَمِهِ، هو سَليلُ القِمَمِ وأعلاها أرضاً في الدنُّوِ من السماء وتَحقِيقِها.
واثبُت فيهِ، تَعلَم أنَّه ليسَ عارِضاً ولا مَرحَليَّاً، ليسَ مارِقاً ولا موَقَتاً، وأنَّك بِهِ يقينُ الهَديرِ القاطِعِ أنَّهُ ليسَ مَجزوءأ ولا مُقتَطَعاً، لا مُستَنسَباً ولا مَقطوراً.
إن أعلَيتَهُ بَعد، بأن تُصبِح ذاكَ الُلبنَانوَّيَ المُتَرَسِّلَ في عُمقِ أعمَاقِهِ، تَكتُبُ أنتَ تَرِاكُماتِ فِعلِهِ الحيّ لا على وريقات عُمرٍ بل على كِتابٍ من كَينونةٍ، تَجعَلُهَا مُنطَلَقاً لِمَشَارِيع تحريريِّةً، مُتمَرِّدَةً على مُضارَباتِ الخُنوعِ وإستِسهالاتِ الخضوع، تلكَ التي حَسبُها أنَّها الخلاصيَّةُ وحدَها مِن أزمِنَةِ الديماغوجيَّاتِ والهّرطَقاتِ والتوتاليتاريَّاتِ الماحِقَةِ.
أعودُ إلى النَذرِ. فَقَد قُلتَهُ نَذراً!.
لَكَ أن تَتَنَازَلَ عن أيِّ شيْ إلّا عَنهُ. مِن دونِهِ لا تُعاشُ أنتَ شهادةً بل مُتقَوقِعاً في إشكاليَّاتِ عَدَمِ القُدرَةِ على تَجَليَّاتِ الروحِ، وهي مِنَ الحُريَّة وإليَها.
تجليَّات الحُريَّة
باطِلَةٌ كافةُ القَناعاتِ، إن لَم تَكُن في الحقِّ حُريَّة، وفي الحُريَّة حَقٌّ.
كيف تَكسِر أباطيلِها، وأنتَ مُنتَسِبٌ إلى زَمَنيَّاتِ مآربَ تَحمِلُها مَعَكَ، كَمَن يَرحَلُ مِن ذاتِهِ إلى غَير ذاتِهِ في حَقيبةِ سَفَرٍ؟.
لا الحقيبةُ إستِقرارُهُ، ولا السَفَرُ قوَّته في وَجه الفناء.
والغُربَةُ عَينُها سَتَلحَقُكَ، شَريداً شارِداً، سُؤالاً مِن غَير جَواب: مَن أنت؟ ويا لِهَولِ، إن دَارَت مُساءَلَتُها لَكَ، في تيهِ المَجهول: لِمَن أنتَ؟ فَمَا عَساكَ تُجيبُ؟ أَفي الهُروبِ مَوَانِئكَ، وقَد أذِنَت للرَحيل؟.
ألا إقبَل تَحَديَّ تِدوين سِفرِ تكوينٍ، لا جَديداً بل أصيلاً، لَهُ ومَعَهُ هذا اللبنان.
إجعَل ميعادَكَ فيه، فَيَكونَ أرضَ الأحياءِ، مَهدأً لا لَحداً.
واجِه عُريَكَ فيه، فَيَكونَ إمتيازَك، ضَمانَةً لا حِرماناً.
لا تَكن للبنانَ "لا" المستثني نَفسَهَ، بَل "نَعَمَ" النَذرِ لِمَن أوَكَلَ مَصيرَهُ إليكَ، صَارَخاً لَكَ: "هذا هو جَسَدي، هذا هو دَمي"!.
تماماً! لبنانُ قُربانيَّاً يكونُ أو لا يكونُ!.
وأنتَ لُبنانَويَّاً تكونُ، أو لِمَ تكونُ؟.