لقد باتت قُدرات الأجهزة الأمنيّة الرسميّة اللبنانيّة عالية جدًا، لكشف مُنفّذي الجرائم في غُضون ساعات، ولتحديد أماكنهم، ولتوقيفهم في عمليّات أمنيّة دقيقة تُنفّذ ببراعة عالية(1). والأمثلة على ذلك كثيرة، من تحرير مَخطوفين إلى توقيف قتلة ومُجرمين، مُرورًا بمُداهمة أوكار عصابات مُسلّحة، إلخ. لكن في المُقابل، يُعاني النظام اللبناني من ثغرة أمنيّة هائلة تتمثّل بعجز الأجهزة الرسميّة عن التعامل مع خُيوط الكثير من الجرائم، ويُحكى عن غياب الجُرأة في كشف المُنفّذين حتى لو جرى تحديد هويّاتهم! والأمثلة هنا كثيرة ومُتعدّدة أيضًا، والجرائم أخطر وأشدّ وطأة على لبنان واللبنانيّين.
وفي هذا السياق، لا بُدّ من التذكير أنّه في مطلع شباط من العام 2021، أي قبل سنة كاملة، تمّ التعرّف إلى جثّة الناشط السياسي لُقمان سليم الذي إختطف وقُتل بدمّ بارد. وعلى الرغم من ضُغوط المُجتمع الدَولي والأمم المُتحدة، فإنّ أوراق هذه القضيّة بقيت فارغة، وقيل إنّ التحقيقات لم تصل إلى أيّ خُيوط مُهمّة. وهذه الثغرة فتحت باب الإشاعات على مصراعيه، حيث إعتبر الكثيرون أنّ لُقمان سليم كان مُعارضًا شرسًا لما يُمثّله "حزب الله"، الأمر الذي يُفسّر ما حصل، بينما رأى الكثيرون من مؤيّدي "محور المُمانعة" أنّ الإتهاماتضُدّ "الحزب" باطلة، وأنّ إغتيال سليم يندرج في سياق الحملة على "المُقاومة" وتوجيه الإتهامات لها في مُحاولة للنيل من سمعتها وإضعافها.
ومن الأمثلة الكثيرة على الفشل المُستغرب في التوصّل إلى نتائج في التحقيقات، ما حصل في قضيّة إغتيال المُصوّر اللبناني جوزيف بجّاني في 21 كانون الأوّل من العام 2020، حيث فشلت التحقيقات في التوصّل إلى نتائج، على الرغم من أنّ الجريمة وقعت في وضح النار وتحت "أعين" كاميرات المُراقبة! ومرّة جديدة فتحت هذ الثغرة الباب واسعًا أمام الإشاعات، حيث نُسجت سيناريوهات عدّة بشأن أسباب مقتل المَغدور بجّاني، منها أنّه يملك صُورًا مُهمّة عن تفجير المرفأ.
وتضمّ الأمثلة على الجرائم الحديثة التي لم تُكشف خفاياها، جريمة قتل العقيد منير بو رجيلي في 2 كانون الأوّل 2020، وهو ضابط جمارك مُتقاعد، وجريمة قتل أنطوان داغر في 4 حزيران 2020، وهو كان رئيس قُسم إدارة مخاطر الإحتيال في أحد المصارف المُهمّة، الأمر الذي أدّى إلى إصدار مُنظّمة "هيومن رايتس ووتش" أخيرًا، بيانًا عالي اللهجة رأت فيه أنّ "التحقيقات اللبنانيّة في جرائم قتل ذات حساسيّة سياسيّة، حافلة بالعيوب"، ودعت المُنظّمة "المانحين إلى مراجعة المُساعدات المُقدّمة إلى قوى الأمن الداخلي والقضاء في لبنان"(2).
ولا حاجة للتذكير أنّ سلسلة الجرائم والتفجيرات التي شهدها لبنان منذ العام 2005 حتى الأمس القريب، بقيت في أغلبيّتها مجهولة المُنفّذ، مع إستثناءات مَحدودة جدًا(3).وقد وقعت قيادات سياسيّة وأمنيّة عدّة، وشخصيّات إعلاميّة بارزة، وعشرات المُواطنين الأبرياء، ضحيّة هذه الجرائم الكُبرى، من دون أن يتمّ فك لُغزها. وحتى جريمة إغتيال رئيس الحُكومة السابق رفيق الحريري، إنتهت بشكل مُخيّب للآمال، على الرغم من التحقيق الدَولي الذي جرى، وذلك لأاسباب عدّة منها تنفيذ عمليّات إغتيال بحقّ قادة أمنيّين كانوا يُتابعون التحقيقات عن قُرب، ناهيك عن عمليّات الترهيب الجسدي والإعلامي والمعنوي، على مدى سنوات. وفي جريمة إنفجار الرابع من آب 2020 في بيروت، لم تكن النتائج أفضل، حيث طال الترهيب المُحقّقين العدليّين، فإستقال الأوّل، وكُفّت يد الثاني، ولا تزال الحقيقة ضائعة أو مَمنوعة، على الرغم من مرور سنة ونصف السنة على هذه الجريمة الكبرى.
حتى في الجرائم الماليّة، في ظلّ جرائم سرقة ودائع اللبنانيّين في المصارف، وهدر عشرات مليارات الدولارات عن طريق الصفقات والسمسرات من قبل بعض إدارات الدولة ومؤسّساتها ووزاراتها، إلخ. لا يبدو أنّ القانون سيسود، بسبب حمايات طائفيّة وسياسيّة لمُتهمين هنا أو هناك، وبسبب إستغلال هذه الملفّات لتصفية الحسابات السياسيّة والشخصيّة، وحتى لعقد الصفقات وتبادل التسويات، بدلاً من السعي الجَماعي لكشف الحقيقة، لتحديد المسؤوليّات، ولمُعاقبة المُذنبين، ولإعادة الحُقوق لأصحابها...
وممّا سبق، من الواضح أنّ القضاء في لبنان ليس بخير، ومن الواضح أنّ التحقيقات مسموحة في بعض القضايا وممنوعة في أخرى. ومن الواضح أنّ الدُويلة أقوى من الدولة، والحصانات السياسيّة والطائفيّة أقوى من القانون. ولا يُمكن في الختام سوى التمنّي بغد أفضل، قد تكون بدايته التصويت بشكل مُختلف من قبل الناخب اللبناني، بعيدًا عن تقوقعاته الضيّقة السابقة، والتي ساهمت في وصول لبنان واللبنانيّين إلى هذا الدرك، وإلى إقتراب لبنان أكثر فأكثر من معايير "الدولة الفاشلة"!.
(1) أحدث هذه الجرائم على سبيل المثال لا الحصر، توقيف س.ف، قاتل طبيب الأسنان إيلي جاسر في أبلح، قبل أيّام، وتوقيف ع.س مُنفّذ جريمة القتل في بشرّي بحقّ الشاب جوزيف طوق، والتي كانت قد وقعت في 13 كانون الأوّل 2022، وتحرير المخطوف مصعب قباني في عمليّة أمنيّة دقيقة تمّت في حورتعلا في البقاع في 22 تشرين الثاني 2021، إلخ.
(2) بسبب ما أسمته "أوجه القُصور المُتعدّدة والإهمال الجسيم، وإنتهاكات الإجراءات في أربعة تحقيقات في جرائم قتل ذات حساسيّة سياسيّة في العامين الماضيين تُظهر أنّ التمويل السخي والتدريب من المانحين لقوى الأمن والقضاء في لبنان لم يؤدّيا إلى سيادة القانون".
(3) منها مثلاً جريمة تفجير باصين للركّاب في عين علق في العام 2007، والتي جرى بعدها توقيف خليّة إرهابيّة مسؤولة عن المجزرة، وجريمة تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس في العام 2013، والتي أثبتت التحقيقات ضُلوع جهاز الإستخبارات السُوري فيها، وتنفيذها من قبل عُملاء له داخل لبنان، وبعض جرائم التفجير التي وقعت في الضاحية والبقاع بموازاة الحرب السُوريّة والتي تبيّن ضُلوع خلايا إرهابيّة سوريّة ومحليّة فيها.