الخُطاب الإيراني يتمحور حول مُعاداة الكيان الإسرائيلي، والأهداف المُعلنة التي تعمل إيران على تحقيقها في المنطقة تُركّز على مُحاربة إسرائيل، وعلى تعزيز قُدرات القوى المُناهضة لها. لكن ما حصل في السنوات الماضية، هو عكس ما تسعى طهران لتحقيقه، حيث إتجهت العديد من الدُول العربيّة الخائفة من توسّع النُفوذ السياسي والعسكري الإيراني في المنطقة، نحو التطبيع، والحبل على الجرّار! فأي مُستقبل ينتظر المنطقة العربيّة، وماذا عن لبنان؟.
بداية لا بُدّ من التذكير أنّه في نهاية حقبة السبعينات من القرن الماضي، بدأت خُطوات التطبيع مع إسرائيل من البوّابة المصريّة عبر إتفاق "كامب دايفيد"(1). لكنّ القفزة الكبيرة في هذا السياق تحقّقت بعد مُرور أربعة عقود على ذلك، وتحديدًا إعتبارًا من العام 2020. وفي العُقود الماضية، كانت جرت مُحاولات عدّة لتوقيع إتفاقات سلام شاملة، برعاية أميركيّة مُباشرة وتحت عنوان "الأرض في مُقابل السلام". وكان العالم العربي، بما فيه سوريا، على بُعد خُطوات مَحدودة من التطبيع، لكنّ الخلاف على مياه بحيرة طبريّة وعلى بعض التفاصيل الأخرى، ومن ثمّ إغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين على يد مُتطرّف يهودي(2)، أجهضا هذ المُحاولات، الأمر سمح للسياسة الإيرانيّة القائمة على تمويل وتسليح جماعات مُوالية لها في العديد من الدُول العربيّة، بالتوسّع أكثر فأكثر، بحيث باتت إيران قُوّة إقليميّة كبرى، قادرة من خلال القوى المُناصرة لها على فرض مشيئتها في بعض الدول العربيّة، وعلى تهديد أمن دول عربيّة أخرى.
وبعد أن كانت علاقات التطبيع المَحدودة كمّا ونوعًا، مَحصورة بمصر(3)، وبالأردن(4) من خلال بعض التفاهمات الأمنيّة والإتفاقات الإقتصاديّة والسياحيّة، دفعت الخلافات والصراعات الأمنيّة المُتزايدة بين إيران والدول العربيّة، هذه الأخيرة إلى الرُضوخ للضُغوط الأميركيّة بالتطبيع مع إسرائيل، لتوفير الحماية الأمنيّة والسياسيّة الدَوليّة لأنظمتها، في مُواجهة الخطر الإيراني المُتمدّد. وكرّت سُبحت التطبيع مع إسرائيل، حيث إنضمّت إليه كلّ من دولة الإمارات العربيّة المُتحدة، والبحرين، والسودان، والمغرب، وهناك دُول عربيّة أخرى على الطريق، منها جزر القمر على سبيل المثال لا الحصر، إضافة إلى دول غير عربيّة مثل جزر المالديف. والتركيز الإسرائيلي البعيد المدى هو على إستكمال خُطوات التطبيع وتوسيعها، من خلال التطبيع مع السُعوديّة على مُستوى العالم العربي، ومع إندونيسيا على مُستوى العالم الإسلامي.
وخلال الأيّام القليلة الماضية، زار الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ دولة الإمارات، في تثبيت جديد لعمليّة التطبيع التي تُرجمت في العديد من الإتفاقات الثنائيّة، في الوقت الذي كانت فيه صواريخ ومُسيّرات جماعة "أنصار الله" المُموّلة والمُسلّحة من قبل إيران تستهدف دبي وأبو ظبي. وبرز على خطّ مُواز توقيع وزير الدفاع اٍلإسرائيلي بيني غانتس إتفاق دفاع مع البحرين، ينصّ على التعاون المُشترك في مجالات إستخباريّة وأمنيّة وعسكريّة، ويفتح الباب أمام علاقات تدريب وشراء معدّات، إلخ.
والمُفارقة اللافتة أنّه في الوقت الذي تتولّى الجماعات المؤيّدة لإيران في بعض الدول العربيّة، ومنها "حزب الله" في لبنان، شنّ الحملات السياسيّة والإعلاميّة على دول التطبيع، وآخرها مثلاً ما جاء على لسان عُضو المجلس المركزي في "حزب الله" الشيخ نبيل قاووق مؤخّرًا(5)، وكذلك إستهداف الأمن العربي والخليج بالمُسيّرات والصواريخ الباليستيّة وبالألغام البحريّة، إلخ. أرسلت إيران وفدًا رسميًا رفيع المُستوى إلى الإمارات لتوقيع إتفاقات إقتصاديّة وتجاريّة، وكأنّ شيئًا لم يكن! وهي تستغلّ الأوراق المُسلّحة التي تملكها في المنطقة العربيّة، من اليمن إلى لبنان مُرورًا بسوريا والعراق وحتى قطاع غزّة، لتعزيز موقعها التفاوضي بشأن الإتفاق النووي مع العالم الغربي، ومع الولايات المتحدة الأميركيّة بطبيعة الحال.
والأكيد أنّ المرحلة المُقبلة ستشهد في نهاية المطاف إتفاقًا بين إيران من جهة والعالم الغربي من جهة أخرى، بما يضمن تفلّت إيران من وطأة العُقوبات، ويُحسّن بالتالي واقع الشعب اٍلإيراني المعيشي والحياتي. والأكيد أيضًا أنّ الدول العربيّة، تعمل بدورها على تطوير حياة شُعوبها وعلى إزدهار بُلدانها، وهي لم تعد تُريد المُضيّ قُدمًا في إعتماد سياسات "مُقاوِمَة كلاميًا"، أرهقت المنطقة العربيّة، من دون أن تؤمّن إستعادة الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة، ولا الجولان السُوري المُحتلّ، ولا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانيّة المُحتلّة. في المُقابل، من الواضح أنّ الشعوب التي تدفع الثمن الأكبر والأغلى إقتصاديًا وماليًا، وعلى كل المُستويات المعيشيّة والحياتيّة، هي التي تغيب فيها الدولة المركزيّة القويّة، وتقوى فيها الجماعات المُسلّحة ذات الإرتباطات الخارجيّة، من اليمن إلى سوريا مرورًا بالعراق ولبنان وقطاع غزّة.
في الخُلاصة، لا يُريد لبنان، دولة وشعبًا، التطبيع مع إسرائيل، وهذا موقف مَحسوم، خاصة أنّ الإحتلال الإسرائيلي لا يزال قائمًا في أراض لبنانيّة عدّة، والإعتداءات والإنتهاكات الإٍسرائيليّة اليوميّة ما زالت مُستمرّة بحرًا وجوّا وبرًّا، لكنّ الأكيد أنّ الكثير من اللبنانيّين لا يريدون أيضًا أن يدفعوا وحدهم ثمن صفقات إقليميّة تُعقد بين إيران والعالم الغربي، على حسابهم! وهم يُطالبون بالحياد بعيدًا عن أيّ محور، ويرفضون أن يكونوا ورقة تفاوض بيد أي جهة، لأنّ الفقر والعوز والجوع والحياة المُزريّة التي يعيشونها هي أيضًا مُهينة للكرامة!.
(1) في 26 آذار 1979، وقّع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن والرئيس المصري آنذاك محمد أنور السادات، "مُعاهدة سلام" في مُنتجع "كامب دايفيد" في واشنطن، لتُصبح مصر أوّل دولة تُطبع مع إسرائيل.
(2) إغتيل رابين في تل أبيب خلال مهرجان خُطابي مُؤيّد للسلام مع العرب، في 4 تشرين الثاني من العام 1995، على يد مُتطرّف يهودي يُدعى إيغال أمير.
(3) تُقيم مصر علاقات إقتصاديّة محدودة بقيمة تبلغ نحو 150 مليون دولار سنويًا، مع بعض الحركة السياحيّة الخجولة أيضًا، خاصة من قبل الإسرائيليّين في إتجاه مُنتجعات "شرم الشيخ".
(4) وقّع الأردن في 26 تشرين الأوّل من العام 1994 مُعاهدة "وادي عربة" مع إسرائيل، ثم برز إتفاق الغاز الذي وُقّع في العام 2016، والذي بلغت قيمته عشرات مليارات الدولارات.
(5) قال الشيخ قاووق: "إنّ العُروبة المُتحالفة مع إسرائيل، هي عُروبة أميركيّة ليست منّا ولسنا منها ولا تشبهنا ولا تشرّفنا" و"كرامتنا الوطنيّة تأبى أن نكون جزءًا من أيّ تحالف عربي إلى جانب إسرائيل".