بعد أن أجرى سلسلة من الإجتماعات في إسرائيل في الأيّام القليلة الماضية، تابع الموفد الأميركي آموس هوكشتاين إتصالاته بشأن ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة، في لبنان حيث إلتقى بعدد من كبار المسؤولين الرسميّين، مُستعرضًا خريطة طريق جديدة للتوصّل إلى تسوية. فهل ستكون نتائج جولة التفاوض غير المباشر المُقبلة مُختلفة عن سابقاتها، وهل سيتنازل لبنان عن جزء من حُقوقه؟.
لا شكّ أنّ مُحادثات المبعوث الأميركي لشؤون أمن الطاقة العالمي، في لبنان خلال الساعات الأخيرة، حاسمة لجهة تحديد ما إذا كان من جدوى أساسًا في عقد جولة تفاوض جديدة برعاية الأمم المتحدة وبإشراف أميركي، بشأن ترسيم الحدود، وكذلك لجهة تحديد النسبة المئويّة لاحتمال النجاح، في حال عُقدت هذه الجولة التفاوضيّة في نهاية المطاف. وليس بسرّ أنّ الجانب الأميركي يُلوّح بالإنسحاب من الملفّ وبوقف دور الوسيط، في حال إستمرار التعثّر الناجم برأي الأميركيّين عن التمسّك بمطالب وبشروط غير واقعيّة.
إشارة إلى أنّ الجانب الإسرائيلي يُفاوض من موقع قُوّة، كونه بدأ العمل ميدانيًا بمحاذاة المساحات البحريّة المُتنازع عليها، وهو مُصرّ على الإنسحاب من المفاوضات في حال أصرّ لبنان على توسيع مطالبه البحريّة إلى حدود الخط 29. ونقطة الضعف الوحيدة لدى الجانب الإسرائيلي حاليًا، تتمثّل في كونه حدّد سُقوفُا زمنيّة لأعمال التنقيب ضمن حدوده الشماليّة، وبالتالي ما لم يحصل تقدّم سريع في المُفاوضات مع لبنان، إنّ العُقود مع الشركات الدَوليّة المُلتزمة بهذه السُقوف ستتأثّر سلبًا، لأنّ شركات النفط العالميّة تُفضّل ألا تعمل في مناطق نزاع، حرصًا على سلامة طواقم عملها، وتجنّبًا للدُخول كطرف في نزاعات سياسيّة وأمنيّة.
في المُقابل، يُعاني الجانب اللبناني من أكثر من نقطة ضُعف، الأمر الذي لا يُساعد الفريق المُفاوض. وأبرز نقاط الضعف هي:
أوّلاً: يُوجد خلاف لم ينته بعد خلف الكواليس، بين عدد من المسؤولين اللبنانيّين، وذلك بشأن مدى ضرورة التمسّك بطرح الخط رقم 29 كنقطة تفاوض، بدلاً من الخط رقم 23، علمًا أنّ هذا يعني المُطالبة بمساحة بحريّة تبلغ 2290 كلم. مربّع بدلاً من 860 كلم. مربّع. ومسألة المساحة التي سيُطالب بها لبنان حاسمة لإعادة إنطلاق المُفاوضات من عدمها، ولرفع فرص التوصّل إلى تسوية، أو العكس.
ثانيًا: يُوجد خلاف مُستتر أيضًا بشأن الجهة الرسميّة التي تُعطي كلمة الفصل في البتّ في أيّ إتفاق نهائي بشأن ترسيم الحدود البحريّة. فإذا كان مُمثّلو الجيش اللبناني في فريق التفاوض يقومون بمهمّة لوجستيّة وتقنيّة بحتة، فإنّ قرار الحسم النهائي يتطلّب ضوءًا أخضر سياسيًا. وفي حين يُحاول رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون إمساك هذه الورقة، لا يستسيغ رئيس مجلس النواب نبيه برّي هذا الأمر، مع التذكير أنّ برّي هو الذي كان قد فاوض منذ سنوات طويلة على وضع إتفاق الإطار مع الأميركيّين، قبل إنطلاق المفاوضات غير المُباشرة قبل عامين. وبالنسبة إلى رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي كانت حُكومته السابقة قد أودعت المرسوم رقم 6433 لدى الأمم المُتحدة في العام 2011، مُلتزمة آنذاك المُطالبة بالترسيم وفق الخط 23، فيرغب أيضًا بأن تكون للحكومة الحاليّة التي يرأسها، الكلمة الفصل في ما خصّ أيّ إتفاق مُحتمل لترسيم الحدود.
ثالثًا: يُوجد فريق لبناني معني بالمُفاوضات بحُكم الأمر الواقع الشاذ القائم في لبنان منذ سنوات عدّة. وهذا الفريق الذي يُمثّله "حزب الله" يقف في موقع المُراقب حتى إشعار آخر، أي حتى تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود لنتائج المُفاوضات. لكنّ "الحزب" كان شدّد أكثر من مرّة على ضرورة ما أسماه عدم التفريط بأيّ من حُقوق لبنان البريّة والبحريّة، وكان هدّد بالتعامل بالأسلوب المُناسب مع أي خرق أو تعدّ إسرائيلي على مصالح لبنان البحريّة، قبل التوصّل إلى إتفاق برعاية دَوليّة.
رابعًا: يُوجد الكثير من الإشاعات بأنّ ملف ترسيم الحدود دخل في بازار الخلافات الداخليّة، وعمليّات شدّ الحبال بين القيادات الرسميّة في لبنان. وليس بسرّ أنّ التباين في الآراء يطال مسألة التدقيق الجنائي ومُحاكمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومسألة المُوازنة ككلّ وإقرار سلفة الكهرباء، ومسألة تعديل صلاحيّات كلّ من وزير العدل ومُدعي عام التمييز لجهة زيادتها لصالح الأوّل على حساب الثاني، إلخ. والكباش الحاصل بين القيادات الرسميّة دفع مسألة إستراتيجيّة مصيريّة كترسيم الحدود إلى بازار الخلافات السياسيّة، بحيث هناك من يغمز من قناة بأنّ رئيس الجُمهوريّة يستغلّ ورقة التفاوض لعقد تسوية مع الأميركيّين تشمل مصالح حزبيّة ضيّقة، مُرتبطة تحديدًا بالعُقوبات على رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" النائب جبران باسيل، الأمر الذي تنفيه كليًا الجهتين الرئاسيّة والحزبيّة المعنيّتين.
خامسًا: إنّ مفاوضات المبعوث الأميركي لا تنحصر بمسألة ترسيم الحدود فقط، بل تشمل أيضًا مسألة إستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن، والعراقيل التي تُواجهها(1)، علمًا أنّ مطالب الجانب الأميركي تتقاطع مع مطالب الورقة العربيّة، لجهة تنفيذ القرارات الدَوليّة الخاصة بلبنان(2)، حيث أنّ إستقرار الحدود الجنوبيّة، ووقف أنشطة "حزب الله" كليًا فيها، هي أيضًا على جدول مُحادثات المُوفد الأميركي.
في الخُلاصة، إنّ الساعات المُقبلة حاسمة لتبيان مصير المُحاولة الأميركيّة الجديدة الرامية إلى دفع مُفاوضات ترسيم الحدود إلى الأمام. وما لم يحدث خرق يُبنى عليه هذه المرّة، فإنّ الإرتدادات ستكون سلبيّة أكثر من المرّات السابقة التي فشلت فيها جولات التفاوض. والسبب أنّ إسرائيل تدفع نحو التوصّل إلى تسوية بسرعة، وإلا فهي ستتصرّف على الأرض بمنطق المُستقوي، لجهة مُحاولة تنفيذ أعمال التنقيب في المناطق المُتنازع عليها من دون غطاء قانوني. وعندها ستكون الأمور مَفتوحة على كل الإحتمالات من جانب لبنان الذي لا يُمكنه السُكوت على سرقة ثروته في البحر، الأمر الذي قد يرفع مُستوى التوتّر الأمني إلى أقصى الدرجات، خاصة مع دُخول "حزب الله" المُتوقّع على الخطّ.
(1) منها مثلاً المطلب المصري بالحُصول على مُستندات خطيّة واضحة بشأن الإعفاءات من "قانون قيصر"، والمطلب السُوري بالحُصول على نسبة مئويّة تبلغ 8 % من المواد الأوّليّة التي ستنقل إلى لبنان عبر الأراضي السُوريّة.
(2) أبرزها القرارات رقم 1559 (صدر سنة 2004 وهو خاص بنزع سلاح كلّ الميليشيات في لبنان) و1680 (صدر سنة 2006 وهو يؤكّد دعم سيادة وإستقلال لبنان السياسي) و1701 (صدر سنة 2006 أيضًا، وهو خاص بإقامة منطقة حدوديّة منزوعة السلاح وخالية من المُسلّحين، مع إستثناء القوى اللبنانيّة الرسميّة وقوّات الأمم المتحدة).