للمرّة الثانية، في غضون أشهر قليلة، "اهتزّت" الحكومة التي أرادت أن تطلق على نفسها شعار "الإنقاذ"، فكانت الأزمات ترافقها من كلّ حدب وصوب، تارة بسبب تحقيقات قضائية لا شأن مباشرًا لها بها، بعيدًا عن تسبّبها بـ"انزعاج" بعض مكوّناتها، وطورًا بسبب "فوضى" تمرير بعض البنود، على طريقة "التهريب"، وفق توصيف بعض الوزراء.
حتى الآن، ورغم أنّ الأمر بات برأي كثيرين "وراء ظهورنا"، لا يزال ما دار في جلسة "الموازنة" التي عقدت في قصر بعبدا الخميس الماضي، محور أخذ وردّ، إذ إنّه يكاد لا يكون مسبوقًا في تاريخ الحكومات، حيث يخرج الوزراء ليقولوا إنّهم "لا يدرون" إذا ما تمّ إقرار الموازنة، ليتّضح أنّها أقرّت، ومعها دفعة تعيينات لم تكن مدرجة على جدول الأعمال.
وعلى جري العادة، لم يتأخّر اللاعبون في استعراض "قدراتهم القتالية"، فكان رفع للسقف من جانب وزراء "الثنائي الشيعي" لأعلى درجاته، وإن لم يرقَ هذه المرّة إلى مستوى التهديد بـ"مقاطعة" الجلسات، حيث تحدّثوا عن "سابقة" لا يجوز "السكوت عنها"، وعن أمور لا بدّ من تصحيحها، وعن "نكث بالعهد" بصورة أو بأخرى.
ومن بوابة هذا "النكث" بالتحديد، "انتفض" رئيس الحكومة ليدافع عن نفسه، وعن حقّه "الحصري"، كما قال، بوضع جدول الأعمال، حق لا "يشاركه" فيه سوى رئيس الجمهورية الذي يستطيع إضافة أيّ بند يشاء من خارج "الأجندة"، متنصّلاً من أيّ "اتفاق جانبي" مع وزراء "الثنائي" أو غيره، لقاء عودتهم عن "اعتكافهم" الشهير.
لكن، ما الذي حصل بالفعل؟ هل هي فعلاً "قلوب مليانة" وقد انفجرت في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، على خلفية الموازنة والتعيينات؟ وهل باتت الحكومة بالفعل "مهدَّدة" نتيجة ما حصل، خصوصًا أنّ أيّ "مقاطعة" اليوم ستعني "الإطاحة" بها بالكامل؟ ولماذا لا يكون الأمر عبارة عن "تكتيك سياسي" ينفع ولا يضرّ، في قاموس القوى السياسية، عشية الانتخابات؟!.
صحيح أنّ الحكم على النوايا قد لا يكون محبَّذًا، إلا أنّ الاحتمال الأخير لا يبدو مُستبعَدًا على الإطلاق، وفق ما يقول الكثير من المتابعين والعارفون، ممّن يميلون إلى اعتبار ما حدث يوم الخميس وبعده، مجرّد "مناورة"، وإن لم يكن كذلك، فهو ينطوي بالحدّ الأدنى على "شعبويّة" لا غبار عليها، وقد تكون من "لزوم" مرحلة الانتخابات في كلّ الأحوال.
ليس خافيًا على أحد أنّ المشكلة التي "فجّرت" جلسة مجلس الوزراء، إن جاز التعبير، لا تتعلّق فعليًا بالموازنة، فمع أنّ الكثير من القوى الممثّلة في الحكومة ترغب، لدواعٍ انتخابية بامتياز، في "التنصّل" من مشروعها، مع ما يفرضه من أعباء إضافية وغير محمولة على المواطنين، إلا أنّها لا تستطيع ذلك ببساطة، بعد سلسلة من الاجتماعات الماراثونية التي عقدتها الحكومة لأكثر من أسبوع، وكان الجميع يدرك أنّ جلسة الخميس كانت للإقرار، لا للنقاش.
أكثر من ذلك، فإنّ الفريق المعترض على الموازنة، أو بالحدّ الأدنى، على "الفوضى" التي رافقت إقرارها، يُعَدّ من المساهمين الرئيسيين في صياغتها وإنجازها، ولا سيّما أنّ وزير المال محسوب عليه، وتحديدًا على "حركة أمل"، علمًا أنّ القاصي والداني يدرك أنّ إقرارها في مجلس الوزراء ليس "نهاية المطاف"، وأنّ مسارًا طويلاً، وربما معقّدًا، ينتظرها في البرلمان، حيث ستتعرّض لـ"التشريح" من نواب لا يشغلهم سوى الاحتفاظ بمقعدهم النيابي.
من هنا، يعتقد كثيرون أنّ حقيقة الأزمة ترتبط بالتعيينات التي أقرّها مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال، والتي وجد وزراء "الثنائي" أنّها تحرجهم أمام جمهورهم، بعدما كانوا أوحوا بأنّ التعيينات ستكون من "المحظورات"، وأنّ عودتهم إلى مجلس الوزراء، من دون تحقيق مبتغاهم من المقاطعة، "محصورة" ببندي الموازنة وخطة التعافي المالية، وما يندرج في فلكهما، انطلاقًا من الطابع "الطارئ" الذي تتّسم به العملية.
لكن، بمُعزَلٍ عن السبب الحقيقي للأزمة المستجدّة، فإنّ الأكيد أنّ "الشعبوية الانتخابية" حضرت بقوة على خطّها، سواء من جانب "الثنائي الشيعي"، الذي سعى إلى "حفظ ماء الوجه" أمام جمهوره "الممتعض"، أو حتى من جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي وجدها فرصة ليدحض عن نفسه فكرة "التبعية"، ويؤكد "تمسّكه" بصلاحياته الدستورية كاملة، من دون أيّ "مساومة" عليها يحاول البعض جرّه إليها بشكل أو بآخر.
لكنّ ذلك لا يعني أنّ الأزمة ستكون "طويلة" هذه المرّة، أو أنّها ستؤدي إلى إجراءات من قبيل "المقاطعة"، لأنّ الاعتقاد السائد هو أنّها "ضُخّمت"، وأنّها لم تكن تستحقّ كلّ هذه "الضجّة"، فضلاً عن كون مختلف الأفرقاء مقتنعون بأنّ "التأزّم" ليس في صالحهم، وأنّ "عجز" الحكومة لا يعود إليهم بأيّ نفع، خلافًا لـ"الشعبوية" التي لا تزال قادرة على "اجتذاب" الجمهور، على أبواب الانتخابات النيابية.
من هنا، يُعتقَد أنّ الأمور ستعود إلى "صراطها المستقيم"، عاجلاً أم آجلاً، سواء بـ"مَخرَج صوريّ"، كما حدث في مسألة عودة الوزراء الشيعة إلى حضور جلسات مجلس الوزراء، قد يكون على شاكلة إعادة طرح الموازنة، أو حصول "الثنائي" على "حصّته" من التعيينات، أو حتى من دون هذا "المَخرَج"، لإدراك الجميع أنّه "ما كان بالإمكان أفضل ممّا كان"، وأنّه لا بدّ من المضيّ إلى الأمام، في ظلّ المأزق الذي تعيشه البلاد.
قد لا تكون "هزّة حكومية" إذًا بكلّ ما للكلمة من معنى، بقدر ما هي "مسرحية" أخرى تضاف إلى سلسلة "الاستعراضات" التي يشهد عليها اللبنانيون، والتي لا شكّ ستزداد في مرحلة الانتخابات. قد يقول قائل إنّها "نظرية المؤامرة" مرّة أخرى، لكنّها نظرية، على مساوئها، تجد الكثير من القابلية للتصديق مع طبقة سياسية جُرّبت بما فيه الكفاية، وتوحي كل المؤشرات إلى أنّها "ستُجرَّب" من جديد!.