بعد ان اتخذ قراره بتجميد العمل السياسي، اثار رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري الكثير من التساؤلات حول مصير السنّة في الانتخابات النيابية المزمع اجراؤها في ايار المقبل، وبرز تساؤل واضح عما اذا كان الامر مجرد تكرار لتجربة المسيحيين عام 1992 حين قاطعوا الاستحقاق الانتخابي في حينه بنسب عالية جداً. الواقع يشير الى ان الامر لن يحصل، وهذه التجربة لن تتكرر، لا من قبل السنّة ولا من قبل اي طائفة او مذهب آخر في لبنان، لان نتائجها كانت كارثية ولم تحقق اي هدف لها سوى انها ساهمت في المزيد من التهميش للمسيحيين.
بالأمس القريب، ظهر الحريري في ذكرى اغتيال والده، معتمداً استراتيجية قسرية واختيارية في آن، تقضي بالبقاء في الظل هذه الفترة والتقليل من الكلام قدر الامكان لنقل "المستقبل" في المستقبل القريب الى مرحلة اخرى.
مرحلة الحريري قسرية من جهة بسبب الظروف السياسية والدبلوماسية والمالية التي تجمعت ضده وألزمته التراجع كثيراً عن الساحة الى حد الغياب. اما من الناحية الاختيارية، فقد بدا واضحاً ان المشاكل فرضت عليه مقاربة اخرى للامور، تمثلت باقتناعه بأن التراجع الى حين انتهاء العاصفة هو الخيار الصائب والواجب اتباعه اذا ما اراد العودة مجدداً الى الحياة السياسية والعامة. وهذا الاقتناع نابع من تجربة مريرة حاول فيها فرض حضوره بالقوة، الا ان العوامل الاقليمية والدولية تكاتفت ضده وآزرتها بالطبع عوامل محلية، افضت الى خسارته واحراجه امام قواعده واهتزاز صورته. وعليه، ها ان الحريري يتحضر للعودة الى الساحة انما بعد فترة، ريثما يعمل على حل الامور المعقدة التي يواجهها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: العلاقة المتردية مع السعودية وامكان التعويض عنها بعلاقة متينة مع الامارات، والتغلب على بوادر "الانقلاب" العائلي للسيطرة على ارث والده والمتمثلة بأخيه بهاء الذي لم يعد يرغب في تخبئة طموحه السياسي بعد ان كبته طوال 17 عاماً.
سعي الحريري هو ان يظهر للجميع انه، في الفترة المقبلة، سيكون هو الحلّ على الساحة السنّية، وقد انطلق في مسيرته هذه على الخطين المذكورين اعلاه. فعلى الخط الاول، يظهر بكل وضوح "ارتماء" الحريري في احضان الامارات حيث اتخذها مقراً له بدلاً من السعودية التي تجافيه، ويعتمد عليها في التمويل المادي ليعوّم نفسه مجدداً في هذا المجال، كما يعمل في السر والعلن على مرحلة "ربط نزاع" مع السعودية نظراً الى ثقلها الديني والمعنوي في لبنان والذي لا يمكن تجاهله، وهذا الامر بحاجة حتماً الى تدخل دولي ليس متوافراً حالياً انما قد يتوافر في مرحلة لاحقة.
اما على الخط الثاني، فقد بدأ العمل فعلياً ولم يضيّع الوقت لانه يعلم ان التأخر في الرد على هذه الجبهة سيؤدي الى خسارته الفورية، فكان التأييد الشعبي الذي ظهر (ولو بشكل خجول) في ساحة الشهداء في 14 شباط، دليل على ذلك، اضافة الى الامر الاهم وهو وقوف العائلة الى جانبه (عمته وعمه)، بعد تضافر الدعوات والحملات من الاخوة على بهاء الذي لا يحظى بدعم العائلة، ناهيك عن الانتقادات اللاذعة التي تلقّاها من قبل قريبين من الحريري الاب حتى اولئك الذين لا يلتقون مع سعد، الا انهم يفضّلونه على بهاء كما هو واضح. ولا شك ان سعد سيعمل على نسج تحالفات واتصالات جديدة محلياً، تعيده الى دائرة النفوذ التي تتشاركها القوى اللبنانية وفق النسب التي تتمتع بها، وهذا امر بالغ الاهمية خصوصاً اذا زادت الامور تعقيداً في لبنان وبرزت الحاجة الى عقد مؤتمر جديد يؤسس لعقد جديد من التعايش بين الجميع... انما بأسلوب جديد.