لوّ قام كلّ "الزعماء" ورؤساء الأحزاب والتيّارات والكتل النيابيّة في لبنان، بإعتزال العمل السياسي، وغادروا إلى الخارج-كما فعل رئيس الحُكومة السابق سعد الحريري، لشكّل هذا الأمر خدمة على طبق من ذهب لشريحة واسعة من الشعب اللبناني. أمّا وقد إنحصر قرار الإعتزال بشخصيّة سياسيّة واحدة، بالتزامن مع تشبّث باقي القيادات والمسؤولين بالسُلطة، حتى الرمق الأخير، فهذا سيكون له إرتدادات كبرى على مُجمل الوضع الداخلي في لبنان، خاصة على مُستوى التوازنات الدقيقة. وبدون أدنى شك ستدفع جهات عدّة ثمن خُطوة "الإنتحار السياسي" التي قام بها النائب الحريري. وأبرز هذه الجهات:
أوّلا: "تيّار المُستقبل" نفسه، لأنّه حتى لوّ قرّر الحريري العودة إلى العمل السياسي في مرحلة لاحقة، بعد أشهر أو ربما بعد سنوات، فإنّ جُمهور تيّاره لن يعود يومًا كما كان، بعد إتمام الإستحقاق الإنتخابي النيابي المُقبل، من دون أي مُشاركة مُباشرة أو حتى تغطية من جانب "التيّار الأزرق". فالخروج من الحياة السياسيّة العامة، لأي سبب من الأسباب، يترك إرتدادات سلبيّة على القواعد الشعبيّة الحاضنة والمُؤيّدة، في أغلب الأحيان. والعديد من الأحزاب في لبنان تقلّص حجمها كثيرًا عمّا كانت عليه خلال مراحل سابقة من تاريخها، بسبب الإبتعاد عن الساحة، بغضّ النظر عن الأسباب والظروف المُرافقة لهذا الإبتعاد، منها مثلًا حزبي "الكتائب" و"الأحرار"، وبعض هذه الأحزاب إضمحل كليًا مثل "المرابطون"، على سبيل المثال لا الحصر. وغالبًا ما يتشتّت جُمهور هذه القوى، ويتوزّع على قوى وجهات سياسيّة أخرى، أو يحتجب كليًا عن العمل السياسي. وعلى سبيل المثال أيضًا، توجّه قسم من مُناصري "الكتائب" بعد الثمانينات نحو حزب "القوّات"، وإنتقل القسم الأكبر من مُناصري "الأحرار" إعتبارًا من مطلع التسعينات إلى "الحالة العَونيّة" التي تقوننت لاحقًا بإسم "التيّار الوطني الحُرّ".
ثانيًا: الجهة الثانية التي ستدفع ثمن "الإنتحار السياسي" للحريري، تتمثّل بالطائفة السنيّة ككلّ، لأنّ الفراغ الذي سيحدث في حال تطبيق بيان "تيّار المُستقبل" الأخير بحذافيره(1)، سيكون كبيرًا، بحيث سيعجز أي طرف عن تعبئته وحيدًا. وبالتالي، كل السيناريوهات المُفترضة تتحدّث عن مُقاطعة الصوت السنّي بنسبة عالية للإنتخابات، وعن تشتّت صوت الناخب السُنّي وتوزّعه على قيادات مناطقيّة، وعلى قيادات أخرى ستظهر بحكم الضرورة. وبالتالي، لن تكون أيّ جهة من هؤلاء قادرة على قيادة الطائفة أو على تمثيلها، لا بشكل أحادي ولا حتى بشكل ثُنائي، كما هي الحال لدى أغلبيّة الطوائف اللبنانيّة.
ثالثًا: الجهة الثالثة التي ستتضرّر من القرار هي "الجبهة السياديّة" التي كانت مُجتمعة تحت عناوين وشعارات قوى "14 آذار" السابقة. وعلى الرغم من تشتّت هذه القوى من سنوات طويلة، كان يكفي إلتقاء رأي كلّ من "القوات" والإشتراكي" و"المُستقبل" على عنوان مُعيّن، لتشكيل جبهة مُتراصة مُؤثّرة في المُعادلة السياسيّة الداخليّة. لكن مع خروج تيّار "المُستقبل" من اللعبة، وتوقّع تشتّت حجمه التمثيلي شمالاً ويمينًا، سيكون من الصعب في المرحلة المُقبلة، تجميع قُوّة سياسيّة ضاغطة بنفس حجم تلك التي كانت قائمة في زمن الإنقسام الداخلي العامودي بين "8 و14 آذار".
رابعًا: الجهة الرابعة التي ستتضرّر تتمثّل في شبه التحالف الرباعي غير المُعلن، والذي كان يجمع كلاً من "حركة أمل" و"تيّار المردة" من جهة، و"تيّار المُستقبل" و"الحزب الإشتراكي" من جهة أخرى، والذي كان يتطلّع لفرض رأيه الحاسم في الإنتخابات الرئاسيّة المُقبلة. ومع سُقوط عامود "المُستقبل" من هذا الرُباعي-إذا جاز التعبير، فإنّ الكثير من الخطط المُستقبليّة باتت في مهبّ الريح، ما لم يتمّ سريعًا إيجاد البدائل المُناسبة، خاصة وأنّ الإنتخابات المُقبلة قد تخلط أوراق العديد من القوى السياسيّة.
في الختام، من حق أيّ شخصيّة عامة إعتزال العمل السياسي، لكن لا يحق لأي شخص تغيير مُعادلة وتوازنات بلد بكامله، لأنّه غرق بشكل مُتوالٍ في سلسلة من القرارات والخيارات السياسيّة الفاشلة. فالدول ليست حقل تجارب، والأحزاب والتيّارات السياسيّة الكبرى ليست شركة تجاريّة خاصة، يتمّ إقفال أبوابها مزاجيًا، ولأسباب شخصيّة! والمَطلوب من كل من أيّد فكرة "لبنان أوّلاً" في يوم من الأيّام، رفض فكرة الإنعزال والخروج من المُعادلة، وعدم مُقاطعة الإنتخابات، أي بمعنى آخر إختيار شخصيّة أو شخصيّات جديدة تُمثّله، وتعكس آراءه في المُعادلة السياسيّة الداخليّة.
(1) طلب "المُستقبل" من أعضائه الراغبين بالترشّح للإنتخابات، تقديم إستقالاتهم خطيًا، وهو مَنَع التقدّم بأي ترشيحات بإسم "التيّار"، أو إستخدام رموز "التيّار" وشعاراته، إلخ.