بين 7 آب 2008 و24 شباط 2022، 14 عاماً من الحكاية الروسية التي لم تتغيّر، فيما العالم ايضاً لم يتغيّر بالنسبة الى تعاطيه مع الروس وتحديداً مع الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. اوجه الشبه كثيرة بين الحرب التي دارت في جورجيا اثر الغزو الروسي لها في العام 2008، والحرب الدائرة حالياً مع الغزو الروسي لاوكرانيا. اللافت بداية بين الاثنين هو انهما تزامنا مع الالعاب الاولمبية في العاصمة الصينية بكين، ففي العام 2008، كانت بكين تستضيف الالعاب الاولمبية الصيفية في 7 من شهر آب، وبدأ الغزو في 8 منه. اما الحرب الحالية فبدأت بعد 4 ايام فقط على انتهاء الالعاب الاولمبية الشتوية في الصين وتحديداً في بكين. قد يكون الامر مجرد صدفة، وقد يحمل اكثر من ذلك بكثير، الى حد اعتباره بمثابة تنسيق فائق الدقة بين الدولتين في وجه الولايات المتحدة الاميركية والغرب بشكل عام.
اما الثابت في اوجه الشبه بين الحربين، فهو ان بوتين يقرأ في كتاب آخر، ويسير عكس التيار العالمي في ما يخص خوض الحروب. فوفق المفهوم الاميركي والغربي، من "المحظور" خوض حروب مباشرة وانخراط جنودهم فيها، اما كل سيناريوهات الحروب الاخرى أكانت باردة أم الكترونية أم اقتصادية أم دبلوماسية أم استخباراتية... فهي متاحة، لا بل محبّذة. حين اجتاز الروس حدود جورجيا، كانت الذريعة انهم يحمون ابخازيا واوستيا من الاعمال "الارهابية" الجورجيّة، واليوم على اثر اجتياحهم اوكرانيا تم اعطاء الذريعة نفسها وهي حماية "دونتسك ولوغانسك" من الاعمال "الارهابية" الاوكرانية.
يدرك بوتين ان احداً من الدول الغربية لن يجرؤ على ارسال جنوده لحماية اوكرانيا، وهو حتماً لا يرغب في احتلالها، كما يعلم جيداً ان أمد الحرب لن يطول، وقد يستغرق ربما اقل من خمسة ايام للوصول الى الحلّ (المدة التي استغرقها التوصل الى تسوية في جورجيا). صارم هو الرئيس الروسي في منع الدول المحيطة به والتي كانت تنتسب الى الاتحاد السوفياتي سابقًا من الدخول الى حلف "الناتو"، وهو عازم على منع اي تواجد عسكري اجنبي كثيف على اراضي الدول التي تحدّ روسيا، واظهر بما لا يقبل الشك انه قادر على الذهاب الى النهاية في هذا المجال. قوّة بوتين هي في تفوّقه العسكري وقدراته الاستخباراتيّة التي لم تهتزّ ازاء شحنات الأسلحة التي تم إرسالها الى اوكرانيا وتمّ تضخيم اهميتها، إذ لم تمض ساعات قليلة على الاجتياح الروسي، حتى اعلنت موسكو تدمير كل قدرات سلاح الجو الاوكراني، كما اعلنت أنّ حرس الحدود الاوكراني لم يعترض الجيش الروسي! هذا الأمر يعكس مدى هشاشة القدرات العسكريّة الاوكرانيّة أمام التفوق الروسي، وان الحرب لن تكون طويلة وقد لا يمكن اطلاق هذه التسمية عليها، لانها مواجهة من طرف واحد، كما ان خسائرها البشرية قليلة جداً وفقاً لمفهوم الحروب عامة، واهدافها محدّدة بدقة ولا تشمل السيطرة بالكامل على اوكرانيا، لان في الامر حسابات اخرى ومواجهة طويلة الامد (بين مجموعات مقاومة على الارض واجراءات دولية متصاعدة) لا يرغب فيها بوتين.
ويتوقع الكثيرون انه بعد ساعات أو ايام قليلة، ستعود المياه الى مجاريها، وسيكتفي الغرب ببعض الكلام المعسول تجاه اوكرانيا وبعض المساعدات، واتخاذ عقوبات "شكليّة" ضدّ روسيا لن تضرّ بها كما توعّد المسؤولون في واشنطن وباريس ولندن، وستلملم كييف خسائرها وتتعاطى مع الواقع الجديد المؤلم بالنسبة اليها، فيما ستتلاشى اي فرصة لها للانضمام الى حلف "الناتو"، وستكون اشبه بمقاطعة روسيّة مع إدارة ذاتيّة، مع غياب أي قرار خارجي لها، او استقلالية عسكريّة تفوق السقف المحدد لها.
عرف بوتين متى وكيف يخرج عن الخطّ الموضوع للمفهوم الجديد للحروب الذي وضعه الغرب، والقاضي بالابتعاد عن الاشتباكات المباشرة للجنود في أراضي دول اخرى، والاستعاضة عنها بحروب بديلة، واستطاع ان يكسب بأيّام قليلة ما أراده منذ زمن بعيد.