أعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره للجيش الروسي بغزو أوكرانيا، فدخل العالم في حرب جديدة ظنّ الكثيرون أنّ لا مكان لها في عصرنا الحديث، ليتبيّن العكس! فما هي أسباب وخلفيّات هذه الحرب، وكيف يُرتقب أن تتطوّر؟.
بداية لا بُد من التذكير أنّه بعد سُقوط الإتحاد السوفياتي السابق وتفكّكه(1)، خرجت 14 دولة من تحت عباءة هذا الإتحاد بشكل نهائي(2)، بحيث صارت روسيا الإتحادية وحدها، الأمر الذي أحدث تغيّرًا كبيرًا في التوازن الإستراتيجي الذي كان قائمًا، بين الإتحاد السوفياتي من جهة، والدول الأوروبيّة ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركيّة من جهة أخرى. واليوم، وبعد مرور أربعة عُقود على هذا الحدث، يُحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة هذا التوازن الإستراتيجي على حدوده مع أوروبا بالتحديد، بعدما أسفرت تدخّلات الجيش الروسي في بعض الحروب الخارجيّة، وفي سوريا بشكل خاص، بإعادة هذا التوازن على المُستوى العالمي، مُسقطًا ما عُرف لبضع سنوات بإسم "الأحاديّة الأميركيّة".
وإستهداف أوكرانيا بالتحديد، دون سواها من باقي الجمهوريّات التي كانت في السابق مُنتمية إلى الإتحاد السوفياتي، يعود إلى أسباب عدّة:
أوّلاً: أوكرانيا هي أكبر الدول الأوروبيّة من حيث الحجم الإجمالي، حيث تبلغ مساحتها 603700 كيلومتر مربّع. وهي تتشارك مع روسيا الإتحاديّة في مساحة حدوديّة كبيرة، الأمر الذي يجعل موقعها إستراتيجيًا.
ثانيًا: نحو ربع سُكان أوكرانيا هم من الروس (22%)، في مُقابل 73% من الأوكرانيّين و5% من أقليّات وجذور عرقيّة مختلفة، وذلك من أصل نحو 52 مليون نسمة. وقد ساهمت روسيا في مرحلة سابقة في إنفصال كلّ من مُقاطعة "دونيتسك" (أكثر من 75% من سُكانها من الروس) و"لوغانسك" (نحو 65 % من سُكانها من الروس) عن أوكرانيا، قبل أن تعترف رسميًا بهذا الإنفصال قبل أيّام.
ثالثًا: النظام الحاكم في أوكرانيا مُنفتح على الدول الأوروبيّة الغربيّة، وهو خارج تأثير النظام الروسي، ويُعتبر سياسيًا في المحور الأميركي. وعلى الرغم من تبدّل الرئيس أكثر من مرّة عبر الإنتخابات، بقيت العلاقات الروسيّة-الأوكرانيّة غير سليمة.
رابعًا: السبب الأهمّ والأبرز لإجتياح أوكرانيا يتمثّل في سعيها للإنضمام إلى حلف "الناتو"، الأمر الذي تعتبره روسيا خطًا أحمر مَمنوع تجاوزه، لأنّ هذا يعني تمدّد قوّات الحلف إلى الحدود الروسيّة بشكل واسع، بشكل يُهدّد العمق الروسي.
خامسًا: أدرك الرئيس الروسي أنّ سقف ردّات فعل أميركا والدول الأوروبيّة ينحصر بفرض عُقوبات إقتصاديّة وماليّة وإجراءات مُقاطعة تجاريّة، وأنّ لا قُدرة ولا رغبة لأيّ من دول العالم الغربي بمواجهته عسكريًا، الأمر الذي شجّعه أكثر على المُضيّ قُدمًا بخطوة الإجتياح. ولأنّ الرئيس الروسي يتمتّع بعقليّة عسكريّة، لم يتردّد في التذكير بقُدرات روسيا النوويّة(3)، بهدف إثبات مدى جديّته في التعامل عسكريًا مع أيّ مُحاولة لمواجهته من قبل أيّ دولة ضُمن حلف "الناتو".
سادسًا: على الرغم من أنّ أوكرانيا تتمتّع بجيش قوي نسبيًا، إلا أنّ الجيش الروسي يفوقه قُوّة بأضعاف(4)، الأمر الذي يعني قُدرة روسيا على حسم المعركة عسكريًا، بغضّ النظر عن حجم المُقاومة التي ستلقاها، وعن حجم الخسائر التي ستلحق بها. وعلى الرغم من أنّ روسيا لن تُدخل كل جيشها إلى أوكرانيا(5)، وعلى الرغم من أنّ عشرات آلاف المُقاتلين قد يُواجهون القوّات الروسيّة الغازيّة، فإنّ التفوّق العسكري-كمّا ونوعًا، واضح لصالح موسكو. وليس بسرّ أنّ روسيا بدأت الحرب بضرب المطارات والدفاعات الجويّة الأوكرانيّة، لمنح جيشها التفوّق الجويّ الحاسم في المعركة، علمًا أنّها تلعب أيضًا على معنويّات الجيش الأوكراني، لدفع آلاف العسكريّين لإلقاء السلاح من دون مُقاومة.
سابعًا: لا يزال منطق القُوّة هو السائد في العالم، وعندما إجتاح الجيش الأميركي أفغانستان أو العراق، لم يُوقفه أحد، وهو ما يراهن عليه الرئيس بوتين في غزوه أوكرانيا حاليًا، علمًا أنّ بعض المُحلّلين يرفضون هذه المُقارنة، لأنّ ما حدث في أفغانستان والعراق، وحتى في سوريا وليبيا، هي عمليّات أجنبيّة ضُدّ أنظمة ديكتاتوريّة، بينما في أوكرانيا يحدث العكس حيث يتم السعي لإسقاط حكم ديمقراطي مُنتخب شرعيًا.
وممّا تقدّم من الواضح أنّ الرئيس الروسي الذي أثبت بقرار غزو أوكرانيا، أنّه لن يُوقف هُجومه ما لم يُحقّق الأهداف الإستراتيجيّة المرسومة للهجوم، إنّ سلميًا أو بالقُوّة. والمُقصود هنا، أنّ أوكرانيا لن تكون أبدًا عُضوًا في حلف "الناتو"، بل جُمهوريّة خاضعة سياسيًا للنُفوذ الروسي. وكل العُقوبات الغربيّة ضُدّ موسكو–إن التي إتخذت أو التي ستُتخذ في المُستقبل، لن تُغيّر شيئًا في قرار الرئيس الروسي، علمًا أنّ هذه العُقوبات، وإرتدادات الحرب في أوكرانيا ككلّ، ستتسبّب بدون أدنى شكّ بأزمة غلاء عالميّة للعديد من السلع، واللبنانيّون سيدفعون بدورهم فاتورة إقتصاديّة باهظة لهذه الحرب!.
(1) تمّ الإنفصال الرسمي للدول التي كانت تُشكّل مُجتمعة "إتحاد الجمهوريّات السوفياتيّة الإشتراكيّة" في 26 كانون الأوّل 1991، في عهد ميخائيل غورباتشوف الرئيس الأخير للإتحاد السوفياتي والحاكم الثامن له منذ إنشائه.
(2) هي: أوكرانيا، بيلاروسيا، ليتونيا، ليتوانيا، مولدافيا، إستونيا، تركمستان، كازخستان، كيرجستان، أوزبكستان، طاجيكيستان، جورجيا، أرمينيا، وأذربيجان.
(3) تملك روسيا ما بين 4500 و5000 قُنبلة نوويّة.
(4) روسيا تملك 4100 طائرة، منها 772 مُقاتلة ُهجوميّة، في مقابل 318 طائرة منها 69 مُقاتلة هُجوميّة لأوكرانيا. روسيا تملك أكثر من 600 سفينة حربيّة و70 غواصة، في مقابل 38 قطعة حربيّة لأوكرانيا التي لا تملك أيّ غوّاصة. روسيا تملك 12500 دبابة، في مقابل 2600 لأوكرانيا. وهذه الفوارق الكبيرة تنسحب على المُدرعات والمدفعية والصواريخ، إلخ.
(5) يضمّ الجيش الروسي 850000 عسكري، في مقابل ربع مليون لأوكرانيا.