رغم مرور أيام عديدة على بيان وزارة الخارجية الذي واكب انطلاقة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، يبدو أنّ "الجدل" الذي أثاره في الأوساط المحلية لم ينتهِ فصولاً بعد، في ظلّ "الحملة" التي يقودها "حزب الله" بشكل خاص على "خرق" مبدأ "النأي بالنفس"، توازيًا مع "الدهشة" التي عبّرت عنها السفارة الروسية في لبنان لطبيعة البيان ومضمونه.
في غضون ذلك، استمرّت "الاتصالات الدبلوماسية" في محاولة لـ"احتواء" الموضوع، إن جاز التعبير، حيث نُقِل عن رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل مثلاً رفضه للبيان، فيما أعلن مستشار رئيس الجمهورية النائب السابق أمل أبو زيد عن زيارة سيقوم بها إلى موسكو لعقد اجتماع في الخارجية الروسية بعد "عتب" تلقّاه من الأخيرة على خلفيّة البيان.
وفيما ألمح البعض إلى وجود "ضغوط" غربيّة على لبنان، فرنسيّة وأميركية تحديدًا، أملَت عليه إصدار البيان "الجدليّ"، أوحى الحراك الداخليّ بمحاولة لرمي الكرة في ملعب وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، الذي أبدى استعداده لتلقي الانتقادات "بصدره"، علمًا أنّ البعض ذهب بعيدًا في ذلك، لحدّ وصفه بأنّه "أميركيّ الهوى"، وقد كان لفترة طويلة سفيرًا للبنان في واشنطن.
فهل صحيح أنّ الوزير عبد الله بو حبيب هو من يتحمّل مسؤولية صدور البيان "الجدلي"، علمًا أنّ المعلومات الأولية أشارت إلى "توافق رئاسي" عليه، لم يَستثنِ سوى رئيس مجلس النواب نبيه بري؟ ولماذا يشعر البعض أنّ هناك محاولة لتحويل بو حبيب إلى "جورج قرداحي" ثانٍ، ودفعه إلى الاستقالة، من باب "ردّ الاعتبار" ربما لوزير الإعلام المستقيل؟!.
صحيح أنّ "حزب الله" الذي يقود "حملة التصويب" على بيان الخارجية حول الحرب في أوكرانيا، استنادًا إلى كونه لم يُراعِ الأصول الدبلوماسية، لا يدعو صراحةً الوزير بو حبيب إلى الاستقالة، وقد لا يكون هذا مبتغاه، إلا أنّ بعض المقرّبين منه، أو بالحدّ الأدنى مؤيّدي خطّه السياسي، لا ينكرون أنّ وزير الخارجية "لم يكن موفّقًا" في الخيار الذي اتّخذه، خلافًا للوزير قرداحي الذي تمّت محاسبته على تصريحٍ سابقٍ لاستلامه حقيبة الإعلام.
بالنسبة إلى هؤلاء، ثمّة فارق "جوهري" كبير بين الموقفين، فالوزير عبد الله بو حبيب اتخذ طرفًا ضدّ طرف آخر، لا في تصريح إعلامي وبصفة شخصيّة كما فعل جورج قرداحي، يوم دافع عن "حقّ" الحوثيين بـ"الدفاع عن النفس"، بل في بيانٍ صادرٍ باسم الدولة اللبنانية، ما يعطيه صفة "الرسمية"، رغم أنّ أيّ نقاشٍ بشأنه لم يحصل في مجلس الوزراء، كما أنّ بين "الرؤساء" من تنصّل منه وأعلن رفضه له، نافيًا أن يكون قد استُشير في صياغته.
من هنا، يعتبر هؤلاء أنّ "لعبة المقارنة" تذهب لصالح الوزير جورج قرداحي بطبيعة الحال، فهو حوسِب على "رأيٍ" عبّر عنه حين لم يكن يمسك بأيّ منصب رسميّ، وأقيل بناءً عليه، بعد "افتعال" أزمة دبلوماسيّة غير مسبوقة مع لبنان بسببه، في حين أنّ موقف وزير الخارجية يعرّض علاقات لبنان بروسيا للخطر، وقد كان بنفسه قبل أيام قليلة في موسكو، طالبًا الدعم والمساعدة من كبار المسؤولين الروس، وقد وُعِد حينها خيرًا.
أما ما يرفضه العارفون بأدبيّات "حزب الله" فيتمثّل بالردود التي تلقاها من البعض على موقفه، والتي "سخرت" بغيرة الحزب على "النأي بالنفس"، فيما لا يكفّ عن "الانحياز" في كلّ أزمات العالم، و"يشوّش" على علاقات لبنان بدول الخليج. ويشيرون في هذا السياق إلى وجوب إدراك "الفرق" بين الموقف الرسمي الذي تمثّله الدولة والحكومة، والذي ينبغي أن يلتزم النأي بالنفس، ومواقف الأحزاب التي تكفل لها كل القوانين "حرية الرأي" في أيّ ملف من الملفات.
عمومًا، وبمعزل عن مواقف "حزب الله"، ثمّة أسئلة لا تزال تُطرَح عن "الخلفيات الحقيقية" لبيان وزارة الخارجية؟ من يصدّق أنّ "حماسة" الوزير عبد الله بو حبيب قادته إلى إصدار موقف بهذا الوضوح والبعد عن الدبلوماسية، من دون "استشارة" أحد؟ وهل "إخراج" الأمر بهذا الشكل ينطوي على محاولة "احتواء" ليس إلا، من دون أن يتحوّل بالضرورة إلى "كبش محرقة"؟.
صحيح أنّ كلّ الاحتمالات واردة، والسيناريوهات مفتوحة، لكنّ عددًا لا بأس به من المتابعين يستبعدون بالمُطلَق أن يكون وزير الخارجية تصرّف "من رأسه"، في قضية بهذا الحجم وهذه الخطورة، ولو أنّه انطلق، كما يقول، من بعض البديهيات في العمل السياسي، لجهة رفض العمليات العسكرية والحروب، ولا سيما بعد التجارب اللبنانية "المريرة"، ما أضفى على بيانه صفة "المبدئية"، من دون "الغوص" في التفاصيل والدهاليز.
وإذا كان لافتًا التزام رئيس الحكومة نجيب ميقاتي "الصمت" إزاء "الجدل" الحاصل، خلافًا لما حصل عند الأزمة الخليجية، حيث كان أول من تحدّث، فإنّ المعلومات تشير إلى أنّه يعمل بصمت على "احتواء" الموقف، علمًا أنّ كلّ المعطيات تستبعد أن يؤدي ما حصل إلى "أزمة حقيقية" في العلاقات مع روسيا، كما حصل مع الخليج، رغم "العتب" الذي أبدته موسكو، و"الاستغراب" الذي قابلت السفارة الروسية به بيان الخارجية.
يقول العارفون إنّ العلاقات اللبنانية الروسية لن تتأثّر بما حصل، وأنّ "سوء التفاهم" سيُحَلّ في نهاية المطاف، من دون الاضطرار إلى تقديم "كبش محرقة"، ولا سيما أنّ تداعيات الحرب في أوكرانيا تبقى "أكبر" من بيان لا يقدّم ولا يؤخّر، وهي حرب تنذر بتغيير الكثير في "خريطة" السياسة العالمية، وقد بدأت تجلّيات ذلك بالظهور شيئًا فشيئًا!.