منذ بداية المُفاوضات غير المُباشرة بين لبنان وإسرائيل بشأن ترسيم الحُدود، إتخذ "حزب الله" موقف المُراقب لما يدور من نقاشات. لكنّ هذا الواقع تغيّر أخيرًا مع إطلاق رئيس كتلة "حزب الله" البرلمانيّة مواقف عالية السقف جدًا من مسألة الترسيم، مُعلنًا بكل وُضوح أنّ الكلمة الفصل في هذا الملفّ هي للحزب(1)! فما هو مصير الجولة التفاوضيّة التي كان الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين يُمهّد لها، وما هو مصير مشاريع التنقيب، ومن سيتضرّر أكثر لبنان أم إسرائيل، وما هي الإرتدادات والإنعكاسات على العلاقة بين العهد الرئاسي و"الحزب"؟.
يُمكن القول بداية إنّ ما بعد موقف "حزب الله" العلني والمُفاجئ هو غير ما قبله، لأنّه أسفر عن سُقوط شعار "ما تُقرّره الدولة" السابق، لصالح شعارات جديدة تعكس تشدّدًا واضحًا لدى فريق "المُمانعة". وبالتالي الإرتدادات والإنعكاسات المُرتقبة ستكون على هذا الشكل:
أوّلاً: إنّ مصير الجولة التفاوضيّة التي كانت مُرتقبة في المُستقبل القريب، صار مَجهولاً، لأنّ الجانب الأميركي-وفي تقاطع مع الجانب الإسرائيلي، كان يؤكّد خلف الكواليس أن لا جدوى من أيّ عمليّة تفاوض بشأن ترسيم الحدود، في حال كانت الشروط المُسبقة عالية ومُتشدّدة، ولا تتمتّع بالمُرونة الضروريّة للوُصول إلى تسوية وسطيّة. وبالتالي، قد يتمّ تمديد تعليق المُفاوضات إلى أجل غير مُسمّى بعد هذه التطوّرات.
ثانيًا: حتى في حال تخطّي هذا الموقف التصعيدي من قبل "حزب الله"، وذهاب الوفد اللبناني ونظيره الإسرائيلي إلى طاولة التفاوض غير المُباشرة، برعاية الأمم المُتحدة وبمُتابعة من المُوفد الأميركي، فإنّ فرصة التوصّل إلى أيّ تقدّم باتت مَعدومة، لسببين: الأوّل أنّ الوفد الإسرائيلي يرفض كليًا أيّ حديث عن خط الترسيم رقم 29، والثاني أنّ الوفد اللبناني لم يعد قادرًا على التفاوض على الخط 23، بعد إنضمام "حزب الله" إلى مجموعة الرافضين لتقديم ما يعتبرونه تنازلاً عن حُقوق لبنان السياديّة. والمُفارقة أنّ قوى وشخصيّات سياسيّة مُصنّفة في خانة مُناهضة للحزب، كانت صوّبت بدورها على ما تردّد عن إستعداد لبناني للتفاوض على الخط 23 وليس 29، بحجّة أنّ هذا الأمر يندرج في سياق صفقة بين الجانب الأميركي وكلّ من الرئيس العماد ميشال عون ورئيس "التيّار الوطني الحُر" النائب جبران باسيل، تقضي برفع العُقوبات عن الأخير، الأمر الذي سخر منه النائب باسيل ونفاه الرئيس الذي جدّد التمسّك بحُقوق لبنان.
ثالثًا: إن إستمرار تعثّر التوصّل لحلّ بالنسبة إلى مسألة ترسيم الحدود، يعني عمليًا بقاء ملفّ التنقيب عن النفط والغاز على الرفّ، ويعني فعليًا بقاء هذه المواد الأوّليّة مَدفونة في الرمال. لكنّ الضرر اللاحق من هذا الأمر ينحصر بلبنان فقط، وليس بإسرائيل التي خطت خُطوات مُتقدّمة جدًا على صعد التنقيب عن النفط والغاز وإستخراجه وحتى البدء بتسويقه وبيعه، وذلك في العديد من الحُقول غير المُتنازع عليها مع لبنان. في المُقابل، توقّفت كل هذه الأعمال في لبنان، حتى في الحُقول البعيدة عن المنطقة الحُدوديّة الجنوبيّة.
رابعًا: إنّ تهديد "حزب الله" بشأن إقامة نوع من توازن الرعب في ملف إستخراج النفط والغاز، لا ينطبق سوى على منطقة جُغرافيّة واحدة مُتنازع عليها، علمًا أنّه تُوجد أصلاً مؤشّرات مَشبوهة بأنّ إسرائيل تقوم بسحب وبإستخراج مواد بعض الحُقول الحدوديّة من أماكن قريبة منها. وحتى لو عجزت إسرائيل عن إستخراج غازها من بعض الحُقول في المنطقة المُتنازع عليها، لسبب أو لآخر، فإنّ هذا الأمر لن يحول دون تحوّلها المُتواصل إلى بلد نفطي وغازي، بينما لبنان الغارق في ديونه وعجزه المالي، يقف موقف المُتفرّج والعاجز عن التقدّم خُطوة إلى الأمام. وفي حال إفترضنا أنّ "الحزب" قام بالتصدّي أمنيًا لأي مُحاولة إسرائيليّة للتعدّي على حُقوق لبنان البحريّة، فإنّ هذا الأمر لن يحلّ ملف التنقيب ولا ملفّ ترسيم الحدود، بل قد يدخلنا في مُواجهة جديدة على غرار "حرب تمّوز 2006"، مع ما سبّبه هذا العدوان الإسرائيلي من دمار وخسائر.
خامسًا: إنّ المَقولة التي تربط مسألة إستخراج المُشتقّات النفطيّة من المياه الإقليميّة اللبنانيّة بحلّ ملفّات شرق أوسطيّة مُهمّة، خاصة بالتطبيع العربي – الإسرائيلي الشامل، وببقاء النازحين السوريّين في الدول التي نزحوا إليها، وبدمج اللاجئين الفلسطينيّين بالمُجتمعات المُضيفة، قد تكون صحيحة. لكنّ الأصحّ أنّ العناد اللبناني لن يحلّ أيّ من هذه الملفّات، بل سيُضيف ملفّا آخر هو ملف التنقيب عن الغاز وإستخراجه إلى الملفّات العالقة منذ سنوات طويلة. والدليل أنّ لبنان عاند لعُقود طويلة مُنتظرًا حلّ القضيّة الفلسطينيّة، لكنّ هذه القضيّة لم تُحلّ حتى تاريخه ودفع لبنان الثمن الأكبر لهذه المُعضلة، ويبدو أنّنا نسير على الخُطى نفسها في ملفّ النازحين السوريّين، وفي ملفات أخرى، الأمر الذي زاد الأوضاع في لبنان تدهورًا، بينما تذهب العديد من دول وشُعوب المنطقة في إتجاه أنماط حياتيّة مُستقرّة وهانئة.