إنّ رهانات وصراعات القوى الكبرى قائمة بشكلٍ أساسي على أولويات السيطرة على الجغرافيا الغنية بالنفط، والدخول إلى أسواق استهلاكية في الدول النامية. ذلك أنّ استغلال موارد الطاقة من النفط والغاز الطبيعي وقطاع الكهرباء يكون هدفاً استراتيجياً للدول الكبرى من أجل الحفاظ على سيطرتها وتأثيراتها على النظام العالمي، خصوصاً أنّ الثروات الطبيعة تشكّل الرافعة الأساسية لأيّ اقتصاد عالمي.
أولوياتٌ متعدّدة تحكم العلاقات الروسية مع محيطها الجغرافي، وملامح الرؤية الجديدة للسياسات الخارجية. فالدب الروسي يتحرك خارجياً لاعتبارات أمنه القومي وكسر الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها حلف الناتو. فقد أصبح مؤخراً حقل العلاقات الدولية متأثراً بالخطاب السياسي للرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، الذي يعمد إلى ابتداع التأثير الجغرافي للسياسات الخارجية الروسيّة، مما مهّد لتدخل القوات الروسية في أيّ منطقة جغرافية تمثّل تهديداً للأمن القومي الروسي وهذا ما حصل في كازاخستان مؤخراً.
من المؤشرات الدّالة على استمرار العداء الغربي لروسيا، مواصلة حلف الناتو توسّعه مهدداً الأمن القومي الروسي، حيث إنّ العداء الغربي لروسيا الإتحادية يأخذ أبعاداً أيديولوجية وثقافية مختلفة.
في الواقع، ظهرت في خطابات رئيس روسيا الاتحادية "فلاديمير بوتين" العديد من العبارات التي توضح لنا مستقبل المواجهة بين الغرب والشرق، ومنها الحديث عن الحرية والأديان، حيث اعتبر أنّ المجتمع الغربي يمثّل بالنسبة له إمبراطورية الكذب. فالقرارات الاستراتيجية للرئيس "بوتين" بالتوجه غرباً تحت نيران القوات العسكرية لم تكن لتصل إلى هنا لولا وجود المطامع الغربية في الثروات المحيطة بروسيا الاتحادية، وصولاً إلى تهديد الأمن القومي الروسي. وبالتالي، عندما يكون هدف حلف الناتو زرع قواعد وصواريخ له على حدود روسيا الاتحادية، ذلك يعني وجود مطامع بالثروات الطبيعية الموجودة في الأراضي المترامية الأطراف لروسيا الإتحادية.
تنتج عن موضوع مصادر الطاقة أزماتٌ هي غايةٌ في التعقيد، كونه يترابط مع العديد من الملفات ومنتشر في بقاع جغرافية متناثرة تخضع لسلطات الأنظمة السياسية المسيطرة عليها بشكلٍ فعلّيّ. هناك، تترابط شبكة عنكبوتية تصلُ مواضيع ذات بعد اقتصادي واجتماعي وتنموي، بمسائل جغرافية وسياسية، إضافةً إلى تأثير الاستراتيجيات المعتمدة من قبل الدول المؤثّرة على الصعيد الدولي (أميركا، روسيا، الصين، إيران...).
بناءً على ذلك، يمكن القول أنّ الإهتمام بالشأن الدولي، يوجب علينا أنّ نأخذ بعين الاعتبار الأهميّة المتزايدة للثروات الطبيعية بالنسبة لوجود تعدّدية قطبية في العالم. حيث تقوم الأولويات لدى الدول الكبرى وشركاتها في السيطرة على أسواق الدول النامية، خصوصاً لتعلّق الطاقة بالنمو الإقتصادي، ووجود توقعات بزيادة الطلب على الطاقة في هذه الدول.
إضافة إلى ذلك، تتركّز أهمّ المناطق المصدّرة للنفط في بقع جغرافية غير مستقرّة سياسياً، ومنها روسيا والشرق الأوسط وبعض مناطق افريقيا، حيث تكون المخاطر من اندلاع نزاعات عالية جداً بين الدول الكبرى للسيطرة على هذه الجغرافيا الغنية بالنفط.
إنّ الأمن القومي لأيّ دولة كبرى أصبح مرتبطاً في يومنا الحالي بالمناورات الكبرى من أجل السيطرة على مصادر الطاقة أو في بعض الأحيان ضربها اقتصادياً، في روسيا والشرق الأوسط وبعض دول افريقيا.
إنّ أهميّة البلدان العربية الجيوسياسية تزداد يوماً بعد يوم بالنسبة لروسيا. وخير دليل على ذلك، التدخل العسكري الروسي في سوريا نزولاً عند طلب السلطات الرسمية في دمشق، بطبيعة الحال، يعتبر التواجد العسكري الروسي في هذه المنطقة جزءاً من صراع جيوسياسي بين الشرق والغرب. فالولايات المتحدة الأميركية هي قطبٌ عالمي له امتداد جيوستراتيجي في العديد من بقاع الأرض عبر حلفائها، ولاسيّما أولائك الأوروبيين في حلف الناتو. وأمّا روسيا، تعمد إلى التعويض عن هذا الضعف بالحلفاء الاستراتيجيين في أوروبا عبر نسج علاقات مع دول الشرق الأوسط الغنية بالنفط، إضافةً إلى علاقاتها مع الدولة التي توازي أوروبا في أسيا وهي إيران.
تجدر الإشارة إلى أنّ الثقافة الروسية تختلف عن الثقافة الشرقية الهندوسية، كما وتختلف عن الحضارة الغربية خصوصاً الأوروبية وما يتبعها في أميركا. فالحليف الإستراتيجي الأهمّ لروسيا هو إيران، نظراً لما تتمتّع به من قوة وثروات طبيعية، إضافةً إلى أهمّ سلاح موجود وهو الروح القتالية العالية التي يتمتع بها الجيش الإيراني وفقاً لعقيدته، وما يستتبع ذلك من وجود معاداة لدى الشعوب الإسلامية للحلف الأطلسي، مضافاً إليها القضيّة الأهمّ لدى الشعوب الإسلامية وهي قضية فلسطين والقدس الشريف.
إلى حد ما، إنّ التصعيد في خطابات العديد من الدول ولاسيما الدول الغربية في وجه روسيا الاتحادية بعد تدخلها في أوكرانيا، هو خير دليل على تغيّر السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية.
من وجهة نظر أخرى، فإنّ الساحة الدولية المستقبلية بالنسبة للجيوسياسية الروسية، تقوم على التعددية القطبية، ممّا يساهم في ردّ الاعتبار للإتحاد الروسي، إضافةً إلى الطمأنينة التي تتبع ذلك في المحافظة على المصالح الروسية في الخارج.
في نفس السياق، وفي قلب معادلة "الشرق والغرب"، إنّ زحف الصين غرباً والتمدّد التدريجي للحلف الأطلسي شرقاً، يمرّان بين مخالب الدبّ الروسي، فالصين حليف روسيا في مواجهة أمريكا، وللدولتين مصالح إقتصادية في أوروبا، فالجيوسياسية الجديدة لروسيا تقوم على منع تمدد الحلف الأطلسي شرقاً وبالتالي نصب صواريخ حلف الناتو على حدودها. أمّا الصين، تعتبر حليفاً إقتصادياً وازناً على الصعيد العالمي.
رغم بروز العداء الأميركي لإيران، فإنّ الولايات المتحدة تحاول جاهدةً إخراجها من الخندق الشرقي المتمثّل بالصين وروسيا. فتأمين امدادت الطاقة لدول أوروبا الغربيّة، يخضع لاعتبارات متعدّدة، ومنها الحدّ من الاضطرابات لتأمين ربط استراتيجي لهذه الموارد، وهنا تظهر تأثيرات نيران السيطرة الجيوسياسية الروسية في الوقوف في مواجهة حلف الناتو.
لن يكون قرار الرئيس الروسي، القاضي بالتدخل العسكري في أوكرانيا لمواجهة النازيين الجدد، الأخير، خصوصاً وأنّ لروسيا خطوطاً حمراءً تتمسّكُ بها مهما كلّف الثّمن، حتى لو تطلب الأمر استخدامها للسلاح النووي.
نافلة القول، إنّ التغييرات المرتقبة التي قد تطرأ على النظام العالمي في حال نجاح نيران القيامة الروسية في وجه تمدّد للحلف الأطلسي، تتجه نحو التعددية وبالتالي حصول تأثير جذري في السياسات العالمية من خلال خلق عدّة أقطاب بدلاً عن القطب الواحد، الأمر الذي يتطلب وجود نفوذ لهذه الدول الأقطاب في الجغرافية الغنيّة بالثروات الطبيعية.