في منتصف حقبة القرن الماضي، كانت الافلام الاجنبية تصوّر الحياة وقد عادت الى "العصر الحجري" بعد الحرب العالميّة، وكانت غالبية الاحداث في هذه الافلام تدور في حقبة ما بعد العام 2000. اليوم، وصلنا الى العام 2022، ويبدو ان التوقعات بالحرب العالميّة قد اصابت، انما بطرق ووسائل مختلفة، حيث لا يزال خيار النووي بعيداً لحسن الحظ، ولكن هناك صعوبات اخرى فرضت نفسها وقد تغيّر صورة العالم الذي نعرفه اليوم. الحرب المندلعة بين روسيا واوكرانيا لا شك انها متعدّدة الاطراف، وطالت اكثر مما توقعها الكثيرون، ويرجح العديد الى ان وجود المرتزقة لدى طرفي النزاع هو احد الاسباب الرئيسية لاطالتها، فيما اعتبر عدد من المحللين ان وجود هؤلاء المرتزقة انما يؤكد ان الحرب العالمية وقعت بالفعل، هذا من الناحية العسكرية، فيما الحروب العالمية الاخرى اصبحت واقعاً مُعاشاً بشكل يومي، ان كان على الصعد الاقتصادية والمالية والغذائية والطبية والتكنولوجية...
صحيح ان المرتزقة لا يملكون القدرة على تغيير نتائج حرب، ولكن وجودهم الى جانب معطيات وعناصر اخرى في الحروب، لا يمكن الاستهانة فيه، والخوف ان تكون الحرب في اوكرانيا بداية لتغيير الواقع الجيوسياسي في تلك البقعة، ومنها استطراداً الى مناطق اخرى في العالم. ولم يكن بريئاً اعلان روسيا الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك قبل يوم من دخول الحرب، ناهيك عن ضمّها لجزيرة القرم سابقاً، لانه وفق المحللين، باتت هذه الخطوات واقعاً لا يمكن العودة عنه، وبالتالي يجب التأقلم معه، اي انه بات هناك بالفعل جمهوريتان جديدتان على الحدود الروسية-الاوكرانية، تماماً كما كان يرغب البعض حصوله في العراق لجهة اقامة جمهورية للاكراد في كردستان على الحدود العراقية، ولكن الخطة لم تنجح على الرغم من صعود نجم "داعش" في ذلك الوقت. الهدف من اقامة جمهوريتين صغيرتين على حدود اوكرانيا، انما يعني ان الروس اقتنعوا ان اوكرانيا باتت تشكل خطراً عليهم بتفضيلها التوجه نحو الغرب بدل التوجه نحو روسيا، وكان الرد بترسيخ تغيير جغرافي له معانيه، ويقوّض (ولو بالقوة) طموح جارتها ويمنعها من مواصلة مشوارها الغربي. وهذا يظهر بوضوح انه عندما تنتهي الحرب، ومهما كانت نتيجتها (حتى لو كانت النتيجة انسحاب الروس كما حصل في افغانستان، وهو امر مستبعد جداً)، فإنّ موسكو تكون ربحت بالفعل ما لم يكن بامكانها تحقيقه سابقاً، اي جمهوريتين تعتمدان عليها كلياً، لا بل ان بقاءهما مرتبط بشكل وثيق برغبة روسيا بذلك، وهما على حدود اوكرانيا، وبالتالي يمكنهما ان تخلقا المشاكل من جهة، وابقائها بعيداً عن روسيا من جهة ثانية. ولا شك ان التواجد الروسي في الجمهوريتين سيكون فاعلاً وقوياً، بفضل اتفاق التعاون والتنسيق الذي سبق وتم توقيعه ايضاً.
ولان الدول الاخرى لن تسكت على هذا الامر، فمن المتوقع ان تطول هذه الحرب العالميّة، ولو انّ فصولها لن تكون دراماتيكيّة على قدر ما شهدناه في الافلام، فالجميع يدرك ان الحرب النووية ستؤدي الى نتائج كارثية، ليس من باب الرغبة في الحفاظ على حياة الانسان والانسانية، بل من باب المصالح الخاصة، لانه عندها ستجد الدول الكبرى نفسها امام نظام عالمي جديد لن تحمل معه صفة "كبرى"، وستتغير خريطة العالم اجمع، وسيكون هناك فرصة حقيقية لدول وشعوب "مهمشة" ان تغيّر من وضعها وتنافس كغيرها من الشعوب والدول على منصب "دولة كبيرة". انه سيناريو لن يحصل حتماً، لذلك كان البديل الابقاء على الحرب العالمية انما بوسائل مختلفة حتى ولو كانت عسكرية، كما يحصل حالياً في اوكرانيا، في انتظار قرع جرس نهاية المواجهة العسكرية والعودة الى المواجهة الدبلوماسية والحرب الباردة التي من الاصح القول عنها انها... "جليدية".