حين أعلن رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري تعليق مشاركته في العمل السياسي، وإحجامه عن خوض استحقاق الانتخابات النيابية المقبلة، دعا خلافًا لما كان متوقَّعًا يومه، أعضاء تيّاره إلى أن يحذوا حذوه، لكنّه للوهلة الأولى بدا كأنّه ترك لهم "حرية القرار"، مشترطًا عليهم، في حال رغبوا بالترشّح، إلى عدم فعل ذلك تحب عباءة "تيار المستقبل" أو باستخدام شعاراته.
مع بدء ظهور أجواء "التمرّد" المفهومة داخل التيار "الأزرق"، بعدما شعر كثيرون، وهم ربما على حقّ، أن "ظروفًا شخصية" أملت على الحريري اتخاذ قراره، الذي لم يبرّره بالمستوى المطلوب سياسيًا، بدأ "الحزم" يرتفع من جانب "الشيخ سعد"، فكانت التعاميم الصادرة عن تيار "المستقبل" التي أضافت شرط "الاستقالة" على كلّ محازب ينوي الترشح إلى الاستقالة.
لكن هذه التعاميم بدت بدورها "قاصرة"، ولم تُثنِ كثيرين داخل "المستقبل" على البحث جديًا بالترشح، حتى إنّ جميع نواب التيّار، بمن فيهم أولئك المحسوبين على الحريري، صرّحوا في وقت من الأوقات أنهم "يدرسون" الأمر ولم يحسموه، خصوصًا مع بروز "الحراك" الذي قاده رئيس الحكومة الأسبق ورئيس كتلة "المستقبل" سابقًا فؤاد السنيورة، رفضًا لـ"إخلاء الساحة".
وبعدما بدا أنّ السنيورة قطع بالفعل شوطًا كبيرًا في طريق تشكيل لوائح تحمل "نَفَسًا مستقبليًا"، ولو غير مُعلَن، انتقلت قيادة "المستقبل" إلى تطبيق استراتيجيّة أكثر حزمًا، لم يتوانَ معها بعض المحسوبين على الحريري من "تخوين" السنيورة، توازيًا مع "التشويش" عليه، من خلال دفع بعض المرشحين المُحتمَلين على لوائحهم إلى إعلان "عزوفهم"، من باب "التضامن والوفاء".
فلماذا يمضي الحريري إلى هذا الحدّ في مشروع "عزوفه"، الذي يبدو أبعد ما يكون عن "العزوف الشخصي"؟ وأيّ فائدة من "التشويش" على السنيورة بهذا الشكل، وإلغاء وجود "الرأي الآخر" داخل "تيار المستقبل" الرافض للاعتكاف بكل بساطة؟ وهل يدفع تيار "المستقبل" عمليًا من خلال هذا السلوك إلى "مقاطعة" الانتخابات، ولو لم يَقُلها بالحرف الواحد؟.
قد تكون الإجابة على السؤال الأخير هي "بيت القصيد" الذي ينطلق منه كثيرون في محاولة لـ"فكّ شيفرة" أداء "المستقبل" خلال الأيام القليلة الماضية، خصوصًا بعدما بدا أنّ "المتضرّر" الوحيد منه ليس سوى تيار "المستقبل" الذي بات "منقسمًا" على نفسه إلى حدّ بعيد، إضافة إلى الساحة السنية التي تبدو على بعد شهرين من الانتخابات، وكأنّها "منفصلة عن الواقع"، في ظلّ ارتباك غير مسبوق لدى المواطنين قبل السياسيّين.
من هنا، يعتقد كثيرون أنّ لا شيء يبرّر "تطرّف" الحريري في موقفه الرافض لخوض الانتخابات، سوى رغبته الضمنيّة بـ"مقاطعة" الاستحقاق بالمُطلَق، وعدم إيجاد من يملأ "الفراغ" الذي سيترتّب على ذلك، خصوصًا من قِبَل من كانوا يمثّلون يومًا مشروع "الحريرية السياسية"، عساه بذلك يوصل رسالة "حازمة" إلى من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، ممّن وضعوا العصيّ في الدواليب، وزرعوا الألغام والأشواك في طريقه.
يقول هؤلاء إنّ الحريري لن يدعو صراحةً وعلنًا إلى مقاطعة الانتخابات، خصوصًا في ظلّ المناخ الإقليمي والدولي المصرّ على وجوب إجرائها في موعدها، ما قد "يدينه" في مكان ما، أمام من يسعى لجذب انتباههم أساسًا، لكنّ كلّ السلوك المتراكم منذ إعلانه عزوفه لا يدلّ سوى على ذلك، وقد وصل إلى "ذروته" من خلال "التشويش" على السنيورة، وصولاً إلى "تخوينه" من قبل بعض الجمهور "المتحمّس"، رغم ما يحمله من "رمزيّة"، إن جاز التعبير.
لعلّ "فورة الغضب" هذه على السنيورة تختصر الأمر، فكلّ المشاريع الطامحة إلى "وراثة" الحريري، لم يُعِرها الأخير اهتمامه، لاعتقاده بـ"ضعفها"، وعلى رأسها ذلك الذي يمثّله شقيقه الأكبر بهاء، الذي لا يرى "الشيخ سعد" أنّه استطاع بناء "الحيثية" التي تمكّنه من تحقيق "انتصار كاسح"، خصوصًا بعدما ارتكب "خطايا تكتيكية" لا يمكن القفز فوقها، من بينها محاولته "تحجيم" شقيقه، والهجوم عليه مرارًا وتكرارًا، بسبب أو من دونه.
في الموازاة، بدا واضحًا أنّ الحريري نجح في "كسب تأييد" بعض من يملكون "الحيثية" في الشارع السنّي، من رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام الذي كان أول "المتضامنين" معه بمجرد وصوله إلى بيروت لإعلان عزوفه، إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي بات "ينسّق" معه في الشاردة والواردة، ويُقال إنّه حتى في مرحلة البحث في الترشيحات الانتخابية، رفض مجرد النقاش مع أيّ "متمرّد" على قرار الحريري من البيت "المستقبلي".
وبذلك، يعتقد "الحريريون" أنّ الساحة "السنية"، قبل دخول السنيورة على الخط، باتت "خالية" من أيّ مشروع "بديل" قوي، ما يعطي "الأرجحية" في الانتخابات لبعض "الزعامات المناطقية" ربما، الذين يقتصر "نفوذهم" على المناطق التي ينتمون إليها، من دون طموحات بأبعاد "وطنية"، فضلاً عن "سُنّة 8 آذار"، الذي لا يخفي "المستقبليّون" احتمال أن يكون عزوف الحريري بابًا لتوسيع حضورهم النيابيّ، ولو من دون "شرعيّة تمثيلية" حقيقيّة.
ولعلّ هذا الأمر بالتحديد هو الذي يرفضه السنيورة، ومعه فريق واسع من البيت "المستقبليّ"، ممّن يتوجّسون من مثل هذا "السيناريو"، الذي سيؤدي إلى تسلّل "حزب الله"، وفق ما يقولون، إلى قلب البيئة السنية، وتبرير الإتيان مستقبلاً على سبيل المثال برئيس حكومة لا يمثّل الوجدان السنّي الحقيقيّ، استنادًا إلى نتائج الانتخابات، وهو لذلك أراد خوض الاستحقاق من باب عدم ترك الساحة لهؤلاء، ومنع تكريس "الفراغ" بأسوأ أشكاله.
وبين هذا وذاك، يختصر الكثيرون الأمر بأنّ القصة باتت "شخصية" بالنسبة إلى الحريري، فهو بعكس ما يقول، لا يضمر الاعتكاف، ولذلك فهو يريد الدفع نحو حدوث "أسوأ السيناريوهات" لأنه وحده قد يكون "طريق العودة" إلى المعترك السياسي، ولكن هذه المرّة بمباركة ورضا الجهات الإقليمية التي أرادت "إقصاءه"، فيضرب بذلك أكثر من عصفور بحجر، ويفرض نفسه "اللاعب الأقوى" على الساحة السنية، إن قُدّر له ذلك.
لا شكّ أنّ "المستقبليّين" يرفضون مثل هذه "الفرضيّات"، ويؤكدون أنّ كلّ القصة مرتبطة بقرار اتخذه الحريري، على كلّ من ينتمي إلى تيّاره الالتزام به، وهو الأدرى بالظروف التي فرضت ذلك، لكنهم يصطدمون بأسئلة لا يزال الغموض يحيط بها، فما الجدوى من "مقاطعة" الانتخابات إذا سلّمنا سلفًا بوجوب حصولها؟ وأيّ فائدة "وطنية" لترك الساحة للخصوم وحدهم دون أيّ شريك؟!.