لا يمكن ان يزداد الوضع شراسة بين اللبنانيين كما هو اليوم، ويقيناً، لولا الغطاء الدولي، لكنا في خضم حرب اهليّة شرسة تغذيها الاموال الخارجية وكفيلة بأن تحجب تداعيات الحرب في اوكرانيا.
من يسمع هذا التقاتل اللبناني على المنابر الاعلامية، يخال ان الاحتدام مردّه الى منصب الرئاسة الاميركّية او الروسيّة او الصينيّة او غيرها من الدول الكبرى، او ان من سيصل الى قبّة البرلمان سيملك القدرة على تغيير الاوضاع في لبنان والانطلاق منها لتغيير الاوضاع في الشرق الاوسط ككل. هل فعلاً هناك من يصدّق بعد مثل هذا الامر؟ على اي حال، يبدو ان هناك من يفعل ذلك، بدليل ان اموالاً تصرف بالملايين للدعايات والاعلانات والمؤتمرات وغيرها، فيما الوضع الاقتصادي والمالي في البلد هو الاسوأ في العالم على مرّ التاريخ...
وفي عودة الى التقاتل اللبناني، من الطبيعي ان تشتعل الجبهة المسيحيّة في الانتخابات، وهي الوحيدة الثابت اشتعالها دائماً على مرّ العقود، الا حين قاطع المسيحيون الانتخابات عام 1992 حيث كان الوئام والوفاق يتغلغل في نفوسهم. اليوم، وبعد الخطابين الناريين لكل من رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، بدا واضحاً ان المسيحيين قد "قبروا" شعار "اوعا خيّك" الذي لم يصمد طويلاً وتلقى الطعنات من الجانبين، واتت الانتخابات بمثابة الوقود الذي جعل النار تستعر اكثر فأكثر. واتت التعابير والكلمات السامّة من الجانبين لتستعيد بعض مشاهد الحرب التي اندلعت في الشطر الغربي من بيروت وقسمت المسيحيين الى حد هدر الدماء.
ها هو المشهد يستعاد هذه المرة، انما مع استبدال الرصاص والقذائف بسلاح اللسان والكلمات القاتلة، فلم يعد هناك من مجال يتسع لكلمة "اخوة" بل تحول الجميع الى "اعداء". كل ذلك من اجل صوت من هنا وآخر من هناك، وفي سبيل تقديم المزيد من التضليل للناخبين الذين تغذّيهم "النكايات" و"الاحقاد" التي تعميهم عن سواد مستقبلهم، في مقابل الاعتداد بحصد مقعد او مقعدين من "انياب العدو".
وفيما كان متوقعاً مثل هذه الحرب على الجبهة المسيحيّة، كان من غير المتوقّع ان تنتقل العدوى الى الجبهة السنّية التي كانت تشهد بعض "المناوشات" الخفيفة سابقاً قبل ان يعمد "تيار المستقبل" الى حسمها بحصد غالبيّة الاصوات. وكان بارزاً هذه المرة تغريد رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة خارج سرب "نادي رؤساء الحكومات السابقين" الذي اعتمد سياسة "النأي بالنفس" تجاه الانتخابات وقرر عدم خوضها، مع الاشارة الى انه لا يزال عضواً في هذا النادي، غير ان ارضيته تعرضت لتشققات قد يصعب اصلاحها، بطلها رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة نفسه الذي خرج من ظلّ النائب سعد الحريري وبات يشكّل لوائح من خلال اتصالات ومشاورات مع اطراف من خارج المذهب السنّي. وبرز سؤال عن الغطاء الذي يحظى به السنيورة للقيام بمثل هذه الخطوة، وما اذا كان يعمل بدعم سعودي بالتحديد!. واتى الكلام عن فتح خطوط بينه وجعجع لتبديد التشكيك، حيث ان الطرفين يحظيان بغطاء سعودي من جهة، وبعباءة دولية من جهة ثانية، ما يعني انّ الساحة السنّية باتت متعدّدة الاطراف مع دخول السنيورة على الخط بعد ان سبقه رجل الاعمال بهاء الحريري، والنائب فؤاد مخزومي، في ظلّ محاولات دائمة من النائب فيصل كرامي ودور من وراء الكواليس لرئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، اضافة الى بعض السياسيين من هذا المذهب.
واذا كانت الساحة الدرزيّة اقلّ حدة من حيث المنافسة، الا انّ الواقع والتجربة اللبنانية تفيد بشكل قاطع وحاسم، انّ كلّ هذه الامور ستتغيّر بعد الانتخابات، وما قيل قبل هذا الاستحقاق الدستوري يمكن ان يتغيّر جذرياً بعده مباشرة، وخريطة التحالفات والاتصالات والتفاهمات التي تسود قبل عملية الاقتراع، ستتغير كلياً بعدها، ليعود الوضع الى ما كان عليه وننعم بمشهد Deja vu مراراً وتكراراً.