منذ بدء الاستعدادات للانتخابات النيابية المقرّرة في أيار المقبل، بدا واضحًا أنّ "حزب الله" قد يكون أكثر "أحزاب السلطة" ارتياحًا لواقعه، فكان أول من أطلق رسميًا حملته الانتخابيّة، وأول من أعلن أسماء مرشّحيه، ملتزمًا بمبدأ "القديم على قدمه"، من باب "التحدّي" للمطالبات بالتغيير، فيما كان "الحلفاء والخصوم" ينكفئون، مراهنين ربما على عدم حصول الانتخابات برمّتها.
حينها، قيل إنّ "حزب الله" أراد أن يضرب أكثر من عصفور بحجر، فهو يسعى من ناحية لدحض "الفرضية" القائلة بأنّه لا يريد الانتخابات ويسعى لتطييرها أو تأجيلها بالحدّ الأدنى، ومن ناحية ثانية لتكريس "قوته" التي لم تتأثّر، خلافًا لكلّ ما يقال ويروَّج، بجملة الأزمات التي عصفت بالبلاد على مدى العامين الماضيين، منذ ما عُرفت بـ"انتفاضة 17 تشرين (الأوّل 2019)" وما تبعها.
لكنّ ما سُرّب من كلامٍ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، خلال لقاءٍ داخلي للحزب قبل يومين، عكس صورة مغايرة ومختلفة، حيث لم يوحِ بأنّ الانتخابات ستكون "نزهة" كما تصوّر كثيرون، بل على العكس من ذلك، اعتبرها واحدة "من أهم وأخطر المعارك"، ودعا إلى "شحذ الهمم وعدم الاستهتار والتعامل معها وكأنّها تحصيل حاصل"، وفق ما نُقِل عنه.
وإذا كان السيد نصر الله ذهب أبعد من ذلك، بالقول إنّ "معركة" حزبه في هذه الانتخابات هي في واقع الأمر "معركة حلفائه"، فإنّ العديد من علامات الاستفهام تُطرَح قبيل إنجاز مرحلة تركيب اللوائح، فكيف يقارب "حزب الله"، فعلاً لا قولاً، الانتخابات النيابية المقبلة؟ لماذا يدعو جماهيره للبقاء حذرين حتى إعلان النتائج؟ وما الذي يخشاه حقيقة من هذه الانتخابات؟.
يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّه على المستوى "الضيّق" المحصور بقائمة مرشحيه ومقاعده، "أكثر من مرتاح"، بل إنّه ينتظر على أحرّ من الجمر هذه الانتخابات، لعلّ نتائج تضع حدًا "للقيل والقال" الذي انتشر كثيرًا في الآونة الأخيرة، وأوحى بأنّ الحزب بات في حالة "يرثى لها" شعبيًا، وأنّه فَقَد الجزء الأكبر من قاعدته الشعبيّة والجماهيريّة، على خلفية سلسلة الأزمات "الدراماتيكية" التي عصفت بالبلد على امتداد المرحلة الماضية.
لا ينفي هؤلاء بأنّ الحزب، شأنه شأن سائر الأطراف، تأثّر بهذه الأزمات، فهناك الكثير من المؤيّدين ممّن "ابتعدوا" عنه بشكل أو بآخر، بعد "حراك 17 تشرين"، بعدما اعتبروا أنّ الحزب، الذي "تصدّى بظهره للمنظومة" بأسرها، وقف عمليًا ضدّ "نبض الناس"، بل ذهب إلى حدّ "تخوين" حركة مطلبية محِقّة، بمُعزَلٍ عن "الاعتبارات" التي يقول الحزب إنه انطلق منها في الحكم على حراك بدأ "عفويًا"، لكن سرعان ما تمّ "تسييسه" وفق ما يردّه المحسوبون عليه.
وهناك الكثير من المؤيّدين ممّن ابتعدوا عن الحزب، بعدما أصابهم "نفور" من الطبقة السياسية بالكامل، على خلفية "الانهيار الكامل" الذي شهدته البلاد، والذي انعكس عليهم بشكل مباشر اقتصاديًا وماليًا، ولا سيما بعد "احتجاز" ودائعهم في المصارف، وخصوصًا أنّ الحزب الذي كان جزءًا من البرلمان ومن الحكومات المتعاقبة، منذ العام 1992، وقف "متفرّجًا"، ولم يقدّم أكثر من بعض "الأطروحات"، رغم إطلاقه في مرحلة سابقة ما سمّاها "حربًا على الفساد".
لكنّ كل ما سبق "ضُخّم" أكثر بكثير من اللزوم، وفق ما يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله"، الذين يشدّدون على أنّه استطاع "السيطرة" على الوضع، والحدّ من "الارتدادات"، علمًا أنّه يكاد يكون الحزب الوحيد الذي لم يتأخّر "داخليًا"، كما أنّ غالبية مؤيّديه من خارج الجسم التنظيمي لا تزال ترتبط به "وجدانيًا" من خلال التمسّك بمبدأ "المقاومة"، الذي عرف الحزب كيف يعيد النقاش حول "قدسيّته" على أبواب الانتخابات، على خلفيّة "الحملات على السلاح".
من هنا، فإنّ "حزب الله" لا يخشى على واقعه الانتخابيّ، بحسب ما يقول العارفون، وهو يكاد "يضمن سلفًا" أنّ مقاعده الحاليّة في البرلمان لن تنقص، بل إنّه يسعى "لتعزيزها"، من خلال مقعد جبيل، الذي خسره في الدورة الانتخابيّة الأخيرة. إزاء ذلك، يُطرَح السؤال: ما الذي يخشاه إذًا الحزب؟ ولماذا يعتبر المعركة المرتقبة "من أخطر المعارك السياسية" على الإطلاق؟
لعلّ الإجابة تكمن خلف سطور الخطاب الداخليّ للسيد نصر الله الذي تحدّث فيه صراحةً عن "معارك الحلفاء"، حيث أشار إلى أنّ "الهدف ليس فوز مرشحي الحزب، بل بلوغ حواصل لتعزيز وضع حلفائنا في جبيل وكسروان والشوف وعاليه وفي كل الدوائر"، مضيفًا: "نريد أن ينجح كل الحلفاء معنا، لأنّ المعركة اليوم ليست ضد الحزب فقط، بل لأخذ حصص من الحلفاء، ولذلك فإنّ العمل يجب أن يكون للحلفاء كما نعمل لأنفسنا".
بهذه العبارات، اختصر السيد نصر الله مقاربة حزبه للانتخابات، "فمعركتنا هي معركة حلفائنا، وسنعمل لمرشحي حلفائنا كما نعمل لمرشحينا"، ما يوحي بأن "القلق" هو بالدرجة الأولى على "الحلفاء"، وتحديدًا في الشارع المسيحي، بدليل تعداده دوائر محدّدة أراد التركيز عليها، من جبيل إلى كسروان والشوف وعاليه، رغم أنّ لا مرشّحين لـ"حزب الله" في بعضها أساسًا، لكنّها قد تشكّل "أمّ المعارك" في المواجهة بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية".
ولأنّ مجلس النواب المقبل يفترض أن تقع على عاتقه مهمّة انتخاب رئيس الجمهورية المقبل، باعتبار أنّ "ولاية" الرئيس ميشال عون تنتهي في غضون أشهر، يمكن أن يُفهَم "توجّس" الحزب ممّا يمكن أن تفرزه الانتخابات، فانتقال الأكثرية المسيحية مثلاً من "التيار الوطني الحر" إلى "القوات اللبنانية" مع حلفائها، يمكن أن تترتّب عليه "عواقب كبرى"، ولو أنّ قاعدة "التوافق" تبقى الغالبة في نهاية المطاف، وفق ما يجزم جميع المطّلعين.
هكذا، يبدو أنّ مقاربة "حزب الله" الانتخابية تختلف عن غيره. صحيح أنّه "يتوق" لتأكيد "هيمنته الانتخابية" في مناطقه، والردّ على كلّ الإشاعات عبر الحفاظ على "رصيده" كما هو، وربما تعزيزه، لكنّ "هاجسه الأساسيّ" يبقى عند الحلفاء، فالحماوة الانتخابية تكمن هناك بالتحديد، وهناك أيضًا يمكن أن تُرسَم "الخريطة السياسية" الجديدة، التي ستفرزها نتائج الانتخابات، والتي سيُبنى عليها الكثير في المرحلة المقبلة.