على الرغم من مُضي أسابيع قليلة فقط على آخر زيارة للمُوفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى لبنان، عاد الحديث عن إحتمال عودته مُجدّدًا إلى بيروت في المُستقبل القريب للإطلاع على الجواب اللبناني على إقتراحاته، مع الإشارة إلى أنّ السُلطة اللبنانيّة العليا بحثت ملف ترسيم الحدود في إجتماع عُقد في القصر الجمهوري يوم الجمعة الماضي. فهل بلغ هذا الملف الشائك والحسّاس نهاية سعيدةأم أنّنا عُدنا إلى نقطة الصفر؟.
في المَعلومات أنّ لجنة تقنيّة تضمّ مُمثّلين عن كلّ من السُلطة السياسيّة، ومصلحة الهيدروغرافيا في الجيش اللبناني، وهيئة إدارة قطاع النفط، درست إقتراح الوسيط الأميركي هوكشتاين بالتفاصيل، ودوّنت ملاحظاتها وإقتراحاتها. وليس بسرّ أنّ إجتماع بعبدا لم يتخذ موقفًا رسميًا واضحًا من الإقتراحات الأميركيّة للحلّ، بل دعا الولايات المُتحدة الأميركيّة إلى الإستمرار في جُهودها وفي مساعيها الرامية إلى إستكمال المُفاوضات غير المُباشرة بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحُدود.
وفي المَعلومات أيضًا أنّه خلف الكواليس رفض لبنان المُوافقة على تبنّي إقتراح إعتماد إحداثيّات الخطّ 23 إضافة إلى منح لبنان كامل مردود ما يُعرف بإسم "حقل قانا"، كسقف نهائي لما يُمكن أن يحصل عليه. ويسعى لبنان لإقناع الوسيط الأميركي بأن يكون هذا الإقتراح مُنطلقًا لجولة التفاوض المُقبلة، على أن يتمّ تحصيل المزيد من الحُقوق على طاولة التفاوض.
وفي ظُلّ هذه التطوّرات، لا تبدو الأجواء إيجابيّة بقرب التوصّل إلى حلّ في ملفّ ترسيم الحدود، على الرغم من بعض التصاريح المُغالية في التفاؤل. والأسباب مُتعدّدة:
أوّلاً: المُوفد الأميركي كان واضحًا خلال مُحادثاته الأخيرة في بيروت، أنّ العرض الذي حمله إلى لبنان هو أقصى ما يُمكن تقديمه، حيث أنّ الجانب الإسرائيلي يرفض كليًا تقديم ما يعتبره تنازلات إضافيّة، والجانب الأميركي يعتبر الإقتراح تسوية عادلة للجميع من شأنها أن تفتح باب الإستفادة الإقتصاديّة سريعًا لكل من لبنان وإسرائيل، والبديل هو تعثّر المُفاوضات وتوقّفها، وبقاء لبنان خارج المُعادلة النفطيّة. وبالتالي، هناك تشكيك بجدوى عودة الموفد هوكشتاين ما لم يكن الجواب اللبناني على عرضه إيجابيًا.
ثانيًا: إسرائيل التي خطت خُطوات مُتقدّمة جدًا على طريق إستخراج المُشتقّات النفطيّة وتصديرها من الكثير من حُقولها البحريّة، والتي وقّعت سلسلة إتفاقات في هذا السياق مع العديد من الدول الإقليميّة والدَوليّة، بدأت مُنذ نحو أسبوع سلسلة من الإجراءات التنفيذيّة على صعيدالتنقيب عن النفط والغاز في الحقل المُسمّى من قبلها "كاريش"، والذي يقع في منطقة بحريّة مُتنازع عليها، حيث يعتبرها لبنان من ضمن مياهه الإقليميّة. وفي هذا السياق، قامت سفينة تنقيب وحفر مُتخصّصة بإستكشاف الموقع، تمهيدًا لخطة عمل تقضي بمُباشرة أعمال حفر إستطلاعي مطلع شهر أيّار المُقبل. وقد ضربت إسرائيل بهذه الخُطوة الإستفزازيّة عرض الحائط الهدف من مُفاوضات الترسيم، في مُحاولة لأن تفرض أمرًا واقعًا يصعب تغييره.
ثالثًا: يزداد الربط غير المُباشر ومن تحت الطاولة، بين إنجاز ملف ترسيم الحدود، وما يُمكن أن يحصل عليه لبنان من مُساعدات من شأنها أن تُخفّف من مُعاناة الشعب اللبناني. ويتردّد أنّ واشنطن لن تمنح "الضوء الأخضر" لإستجرار الغاز من مصر، والتيّار الكهربائي من الأردن، إلا بعد الإنتهاء من ملفّ ترسيم الحدود. ويُحكى أنّ مُساعدات "البنك الدَولي" المُقبلة، ستُربط بإنجاز هذا الملفّ أيضًا. وهذه الأجواء تدلّ على حجم الضُغوط على لبنان، وعلى مدى ترابط الملفّات وتشابكها، إلى درجة أنّ البعض يذهب أبعد من ذلك أيضًا، لجهة الربطبين تطوّر المُفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني مع الغرب، وملفّ ترسيم الحُدود.
رابعًا: على الرغم من مُحاولة الجانب اللبناني الإيحاء بأن موقفه مُوحّد من مسألة ترسيم الحدود، فإنّ الواقع خلف الأبواب المُغلقة هو غير ذلك. وقد يكون كلام رئيس الوفد اللبناني العسكري التقني إلى مُفاوضات الترسيم، العميد الركن بسّام ياسين، خير مُعبّر عن ذلك، حيث كتب في منشور له منذ بضعة أيّام أنّ التاريخ لن يرحم من وصفهم باسم "المُتخاذلين والعُملاء والتجّار"، في أي قرار يخصّ ترسيم الحدود البحريّة، في حال إن هذا القرار يمسّ المصلحة الوطنيّة ومُستقبل الأجيال الصاعدة-كما قال.
في الختام، تَنطبق على ملف ترسيم الحدود مَقولة "ما لي أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا"، حيث تكثر الأقوال والإجتماعات والنقاشات من دون أيّ أفعال ملموسة أو نتائج واعدة-أقلّه حتى تاريخه، حيث صارت كل دول المنطقة "نفطيّة" إلا لبنان الضائع والمُربك! فهل سيتغيّر هذا الواقع المأساوي، حتى يبقى الأمل-ولوّ ضيئلاً، بإحتمال الخروج من الإنهيار في يوم من الأيّام، أم أنّ مُشتقّاتنا النفطيّة ستبقى مَدفونة في التراب، ونعيش على حلم إستخراجها لعُقود مُقبلة، كما عُشنا على حلم إستعادة القدُس من الإحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من نصف قرن حتى اليوم!.