مرّة أخرى، بدا أنّ الحكومة انقسمت على نفسها، هذه المرّة على خلفية النزاع المصرفي-القضائي المستجدّ، بعدما "اصطفّ" جزء منها إلى جانب المصارف، رفضًا لأيّ "تطويق" لها قد تكون له انعكاسات "دراماتيكية" على أكثر من مستوى، وتمسّك جزء آخر بـ"استقلالية" القضاء، ورفض التدخّل في قرارات قضاته المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.
ومع أنّ الحكومة استطاعت في الجلسة "الاستثنائية" التي عقدتها السبت الماضي، والتي لم تخرج بأيّ موقف "حاسم"، كما كان متوقّعًا في كلّ الأحوال، أن "تلتفّ" على تبايناتها، في سبيل "احتواء" الأزمة المستجدّة، فإنّ موقفها بدا بالنسبة لكثيرين، مثيرًا لعلامات الاستفهام والاستغراب، خصوصًا بالمقارنة مع ما كان عليه قبل أسابيع قليلة.
وفي هذا السياق، ثمّة من توقف عند "استنفار" رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تحديدًا للدفاع عن المصارف، في مواجهة ما اعتبرها مقربون منه "شعبوية قضائية"، بعدما كان قبل فترة بسيطة يرفع شعار "استقلالية القضاء"، ويعتبره "خطًا أحمر"، في مواجهة فريق داخل الحكومة أراد صراحةً "كفّ يد" المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار.
وثمّة أيضًا من استند إلى عبارة "منشيلو عالبيت" التي قالها ميقاتي، ردًا على سؤال صحافيّ حول الخيارات الواردة في حال عدم تجاوب القضاة، ومدّعي عام التمييز، مع التوجّه لوقف ملاحقة المصرفيين، لسيتذكر كلام ميقاتي نفسه الرافض لـ"إقالة" أيّ مسؤول في "ذروة" الأزمة أو المعركة، لكن حين كان المقصود حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
فهل "انقلب" ميقاتي على نفسه ووقع بالتالي في فخّ "الازدواجية"، كما اعتبر البعض؟ وكيف تُقرَأ "انتفاضته" على الحراك القضائي الأخير في مواجهة المصارف، رغم ما يعانيه المودعون من "قيود وضغوط" بالجملة؟ وهل يمكن القول إنّ مجلس الوزراء تجاوز، مجتمِعًا، ذيول الأزمة المستجدّة أم أنّ تداعياتها لن تقف عند هذا الحدّ؟.
لعلّ الموقف الذي صدر عن رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، تزامنًا مع جلسة مجلس الوزراء "الاستثنائية" التي عقدت في السراي الحكومي، توحي بـ"السلبية"، فالرجل الذي يمثّل جزءًا أساسيًا من الحكومة اتهم "المنظومة السياسية"، التي بدا أنّه حيّد نفسه عنها مرّة أخرى، بالسعي مجدّدًا "لحماية المنظومة الماليّة"، وهذه المرّة من خلال "استخدام الحكومة لفرملة القضاء".
وبموقفه هذا، اختصر باسيل موقف فريق واسع في الحكومة لا "يتناغم" مع رئيسها في موقفه من القرارات القضائيّة الأخيرة، سواء لاعتبارات "الشعبوية الانتخابية" الآخذة في التصاعد، أو لاعتبارات سياسيّة مفهومة، خصوصًا أنّ المصارف تتحمّل برأي كثيرين مسؤولية أساسيّة وجوهرية في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، خصوصًا لجهة "احتجاز" الودائع، وصولاً إلى "التقلّبات" غير المبرّرة في سعر الدولار.
وينتقد المحسوبون على "التيار" في هذا الإطار موقف رئيس الحكومة، وما صدر عنه في تصريحاته الصحافية، ولو أنّه لم ينعكس عمليًا في الموقف الرسمي لمجلس الوزراء الذي أكّد، على العكس من ذلك، على مبدأ "استقلالية" القضاء. ويستغرب هؤلاء كيف يلوّح ميقاتي صراحة بعزل وإقالة قضاة، فقط لأنّهم يمارسون واجباتهم القانونيّة، ولا يعتبر ذلك "تدخّلاً" في السلطة القضائية بأيّ شكل من الأشكال.
ويقول المحسوبون على "التيار" إنّه كان الأوْلى بالمنتفضين ضدّ حراك القضاء في وجه المصارف أن يسهّل إقرار القوانين والتشريعات التي عمل عليها نواب "الوطني الحر" منذ أشهر، وعلى رأسها قانون "الكابيتال كونترول"، إضافة إلى خطة التعافي المالي وقواني منع تهريب الأموال إلى الخارج، لأنّ ذلك كان من شأنه إنهاء الأزمة، ومنع "ابتزاز" المواطنين بودائعهم ومعاشاتهم، كما هو حاصل اليوم.
لكن، في مقابل موقف "التيار" الذي يتّهمه البعض باستخدام القضاء "وسيلة" لرفع مستوى "الشعبوية" على أبواب الانتخابات، أو "تطييرها" إن قُدّر له ذلك، ثمّة في الفريق المحيط برئيس الحكومة، من يرى في مثل هذه المقاربات، "تبسيطًا"، بل "تسطيحًا" للأمور، خصوصًا أنّ مجمل هذه القراءات لا تأخذ في الاعتبار "التداعيات" التي يمكن أن تنجم عن استمرار "المواجهة" بشكلها الحاليّ، والتي ستكون انعكاساتها "كارثية" على المواطنين بالدرجة الأولى.
وفي هذا السياق، يتحدّث بعض العارفين عن "سيناريو" يتمّ التداول به منذ فترة، أوحت التطورات القضائية الأخيرة وكأنّه دخل حيّز التنفيذ، ويقوم على زيادة "الاستقطاب" عشية الانتخابات، عبر رفع مستوى "المواجهة" مع المصارف، وصولاً حتى إلى احتمال "توقيف" حاكم مصرف لبنان، إن وجد البعض "مصلحة انتخابية" بذلك، بعدما تمّ تصويره على امتداد الفترة الماضية، وكأنّه وحده من تسبّب بـ"الانهيار"، رغم كونه منفّذًا لسياسات الحكومات المتعاقبة.
وينفي المحسوبون على رئيس الحكومة أن يكون الأخير قد وقع بفخّ "الازدواجية"، أو "انقلب" على نفسه، وعلى تمسّكه بمبدأ "فصل السلطات"، مشيرين إلى أنّ تحرّكه الأخير يأتي، خلافًا لكلّ ما يروّج، صونًا لـ"استقلالية" القضاء، وتأكيدًا عليها، ولا سيما أنّ ما طلبه هو "تطبيق" القانون، لا أكثر ولا أقلّ، وهو لم "يستدعِ" أركان الجسم القضائي، كما أشيع في بعض الإعلام، ولكنه "دعاهم" إلى اجتماع تشاوري، وهناك فارق كبير بين المفهومَين.
بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ الذهاب حتى النهاية في سياسة "تطويق المصارف"، ولو أنّها ترضي البعض "وجدانيًا وعاطفيًا"، ستكون لها في هذا التوقيت أضرار جوهرية على النظام العام، فيما الحكومة لا تزال تعمل على "الإنقاذ"، فضلاً عن أنّ من شأنها تعريض الاستحقاق الانتخابي للخطر، وهو ما لا تريد الحكومة الوصول إليه، وإن كانت "تدرك" أن بعض القوى السياسية لن "تُعدِم" وسيلة إلا وتستخدمها لتحقيق هذا "المأرب"، كما بات واضحًا.
في النهاية، قد تكون الحكومة نجحت في "احتواء" الأزمة، ولو أنّها "فضحت" مرّة أخرى وقوفها على "صفيح ساخن" من الخلافات والتباينات، لكن السؤال المشروع يبقى: إلى متى؟ وهل هناك فعلاً إرادة بالذهاب إلى "هدنة وتهدئة"، أم أنّ "الانفجار" آتٍ عاجلاً أم آجلاً، طالما أنّ البعض يعتبره "قدرًا محتومًا"، طالما أنّ الانتخابات لا تزال في موعدها؟!.