إذا كان من المستحيل فهم الأزمة اللّبنانيّة وعمقها من النّشرات الإخباريّة، ولا من التّحليلات السّياسيّة النّاشطة، أو الاقتصاديّة الّتي لا تفي الموضوع حقّه، ولا من خلال توقّعات المنجّمين أيضًا وأيضًا، والّتي لا تحمل أفق أمل، فلعلّ ذلك يكون من خلال علم نفس الجماهير، في بعده السّيكولوجيّ، الّذي يقدّم فهمًا للأزمة، لتبقى المعرفة هي أولى طرائق الشّفاء!.
إنّ علم نفس الجماهير أطلقه عالم الاجتماع الفرنسيّ غوستاف لوبون، أواخر القرن التّاسع عشر، وبداية القرن العشرين، بإبداعه مفهوم "عصر الجماهير"، قال: "إنّ دخول الطّبقات الشّعبيّة في الحياة السّياسيّة، وتحوّلها التّدريجيّ إلى طبقات قائدة، يمثّل إحدى الخصائص الأكثر بروزًا لعصرنا، عصر التّحول"، على الرّغم من أنّ غوستاف لوبون كان مقتنعًا بأنّ القوانين والتّطوّر والإبداع، ما قامت على يد الجماهيريّة أو الشّعبويّة، وإنّما على أقلّية قليلة من المثقّفين، والقانونيّين، والمبدعين. وكانت فكرة الجماهيريّة، في تلك الحقبة، ترتبط مع القوى التّدميريّة في التّاريخ، مثل ارتباط البرابرة بسقوط الإمبراطوريّة الرّومانيّة، أوالمغول بسقوط الإمبراطوريّة العبّاسيّة...
بالعودة إلى زماننا، فإذا كانت الحالة الجماهيريّة الّتي انطلقت في "ثورة 17 تشرين 2019"، أصابت بالهلع الطّبقة السّياسيّة الحاكمة، كما المعارضة، فما كان منهما سوى أن تتوحّدا في وجه الشّعب، وإعطائه جرعات زائدة من التّخديرالقاتل، من خلال أزمات تفوق قدرة المواطن الثّائر على التّحمّل والتّفكير في خيارات الحياة، سوى في استمراريّة البقاء، والمحافظة أقلّه على كرامته الإنسانيّة. هذه الحالة وصفها غوستاف لوبون "بالإنسان المنوَّم مغناطيسيًّا"، بحيث تصبح حياة الدّماغ مشلولة لدى الإنسان المنوَّم، ويصبح بنفس الفعل عبدًا لكلّ الفعاليّة اللّاواعية، وتعطّل عندئذ كلّ قدرات الفهم والتّمييز عنده! هذا ما يعيد إلى القوى الحاكمة قدرتها، وتموضعها، وتمركزها، وتأثيرها على الجمهور من جديد، وذلك بخضوع أعمى من دون أيّة مساءلة أومناقشة في طروحاتها وأيديولوجيّتها.
يؤكّد لوبون أنّ الإنسان المتديّن لا يكون من يعبد إلهًا معيّنًا وحسب، بل أيضًا كلّ إنسان يضع طاقته الرّوحيّة، ويؤدي كلّ خضوع إراديّ، وكلّ تأجّج تعصّبيّ في خدمة قضيّة ما، أو شخص ما مرفوع إلى مستوى البطولة والزّعامة. مع العلم أنّ الأيديولوجيّات والعصبيّات لا تولد إلّا من تفعيل التّحريضات الغرائزيّة والقبليّة، ومن خلال الفرد في الحالة التّنوّميّة كما المجتمع. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ العقائد والعصبيّات لا تتوالد من طرائق تشغيل العقل والمحاكمة العقلانيّة. على سبيل المثال لا الحصر، لا حزبيّ في لبنان لا يشكّك لحظة واحدة في صحّة ما يعتقده حزبه، وإن وُجِد يُفصَل منه مباشرة.
بعد هذا التّحليل السّريع، بحسب غوستاف لوبون، فإنّ الحالة النّفسيّة المجتمعيّة الّتي يعيشها الشّعب اللّبنانيّ، في هذه الظّروف العصيبة، ليست سوى حالة تنوّميّة مغناطيسيًّا للمجتمع ككلّ، تعرف بعلم نفس الجماهير أي العصاب المجتمعيّ. فهل من صدمة تعطي مفعولًا إيجابيًّا، وتعيد المواطن اللّبنانيّ من حالة اللّاوعي إلى حالة الوعي، ومعالجة اختلاله النّفسيّ كجماعة ودولة؟ لعلّ الوصفة الّتي قدمها سيغمون فرويد، من خلال نقده لغوستاف لوبون، تكون الأمل المتبقّي، وهي بأن يكون المجتمع هو الّذي يضع على الفرد معايير أخلاقيّة، لو تُرِك الفرد لنفسه، لما استطاع ارتفاعًا إلى مستوى هذه المعايير؛ بل يجزم فرويد بأنّ الجماعة قد تشهد، في بعض الظّروف الاستثنائيّة انفجارًا للحماسة يجعل للمواطنين قدرة على اجتراح أنبل الأفعال وأكرمها.
إنّ صحوة الشّعب اللّبنانيّ ستتجلّى في شفاء جماعيّ من الزّبونيّة السّياسيّة، والتّحزّب الأعمى، بانتخابات نيابيّة تغييريّة. أو نؤكّد، لا سمح الله، ما قاله جورج أورويل: "ربّما يموت الإنسان عندما يتوقّف دماغه... أقصد عندما يتوقّف دماغه عن استيعاب أفكار جديدة". فآخر ما يملك هذا الشّعب، ويتغنّى به، هو التّنمية البشريّة، والقدرات الفكريّة الإبداعيّة. فهل تصل الدّولة إلى بناء وطن الحلم، أو تبقى السّلطة في انفصام، وغير قادرة على تطبيب شعبها؟ أو تبتدع جراثيم نفسيّة مُعْدية أسرع أنتشارًا من الكوفيد وإخوته، حفاظًا على سلطتها المحتضرة؟ وإن طال زمانها فإنّها إلى الموت صائرة. لذلك، على المبدعين والمثقّفين، في المجالات كافّة، نشر الوعي الحقيقيّ، والأخلاقيّ، والقيميّ الّذي يبقى الدّواء الشّافي لحالة اللّاوعي المنتشرة في النّفس الجماهيريّة اللّبنانيّة.