صحيح أنّ "التشكيك" بحصول الانتخابات من أساسها لا يزال "طاغيًا" على الصالونات السياسية في لبنان، في ظلّ اعتقاد شريحة واسعة من الناس، ومعهم بعض المراقبين والمنخرطين في الشأن العام، وربما المرشحين أيضًا، أنّ قرار "تطيير" الانتخابات سيصدر في ربع الساعة، ولو تطلّب الأمر استدعاء "طابور خامس" لافتعال أحداث أو توتّرات تبرّر هذا الأمر.
لكن الصحيح أيضًا أنّه، وبانتظار اتضاح حقيقة "النوايا"، ومدى القدرة على "ترجمتها" أساسًا، في ظلّ الضغوط الدولية لإنجاز الاستحقاق في وقته، ولو أنّها "انخفضت" على وقع الحرب الدائرة في أوكرانيا، فإنّ معظم القوى السياسية باتت "منخرطة حتى العظم" في المعركة الانتخابية، مع بدء "العدّ العكسي" لإنجاز اللوائح بصورتها النهائية والكاملة.
ولعلّ الدليل "الأسطع" على دخول البلاد أجواء الانتخابات، خلافًا لما كان عليه الواقع قبل أسابيع فقط، يتمثّل في الخطاب السياسي، الذي تغلب عليه "الشعبوية الانتخابية"، الذي بات مهيمنًا على البلاد في الأيام القليلة الماضية، وهو خطاب لا يخلو من "التحريض والتخوين"، والاتهامات المتبادلة، وكلّها أساسًا من "عرف" الانتخابات في لبنان، ولو كان يشكّل "مخالفة للقانون".
فهل مثل هذا الخطاب هو فعلاً "القدر المحتوم" للانتخابات في لبنان؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يصل في المرحلة المقبلة، مع اشتداد "السخونة الانتخابية"؟ وما الأهداف التي يتوخّاها أساسًا من يتبنّونه في الممارسة؟ هل يجوز "مقاربته" بإيجابيته كما يفعل البعض، باعتبار أنّه يعبّر عن روحيّة "المنافسة الحامية"، ويؤشّر إلى أن الانتخابات "حاصلة حتمًا" في موعدها؟
الأكيد بدايةً، أنّ مثل هذا الخطاب "الشعبوي" هو بالفعل "عابر" للاصطفافات والتحالفات، حيث أصبح يعبّر في مكان ما عن "تكتيك" يتوافق الجميع على استخدامه، من أحزاب ما كان يُعرَف بـ"8 و14 آذار"، وبالتالي أحزاب السلطة، ولكن أيضًا المعارضة، حتى إن قوى "التغيير" الراغبة في الدخول إلى الندوة البرلمانية تجد فيه بدورها "ملاذًا مناسبًا"، ولو رآه البعض "مبرَّرًا ومشروعًا" للتصويب على طبقة سياسية فاسدة لا تتورّع عن "تخوين" التغييريّين.
وقد تكون الأمثلة على اعتماد هذا الخطاب أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، وإن كان المَثَل الحاضر دومًا، هو استحضار "الأموات"، من خلال القول إنّ من يصوّت لهذا الفريق أو ذاك "يقتل" شخصيّة رمزيّة مرّة ثانية، وهو ما كرّره مثلاً رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي عوّض غياب تيار "المستقبل" عن المنافسة، ليستحضره شعاره المعتاد أنّ من يصوّت للوائح خصومه "يغتال" رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري مرّة ثانية.
لكنّ انتقاد مثل هذا الكلام من قبل خصوم جعجع قد لا يكون "موفَّقًا" ولا "في مكانه"، لأنّ كلام جعجع جاء أساسًا كـ"ردّ فعل" على كلام مشابه صدر عن هؤلاء تحديدًا، فـ"حزب الله" مثلاً كان "البادئ" حين قال أمينه العام السيد حسن نصر الله إنّ من يتحالف مع "القوات اللبنانية" في الانتخابات، "إنما يتحالف مع قتلة شهداء كمين الطيونة"، وذلك بعدما أعلن صراحةً أنّه يخوض في هذه الانتخابات "معركة حلفائه" قبل "معركته الشخصية".
وثمّة من يعتبر أنّ "حزب الله" كان "المبادر" أيضًا إلى اعتماد الخطاب "الشعبوي" يوم وصف الانتخابات بأنّها بمثابة "حرب تموز"، بمعنى أنّ "أعداء المقاومة" يريدون أن "ينتزعوا" منها، عبر صناديق الاقتراع، ما لم ينجحوا في تحقيقه في المعارك العسكرية، قبل أن "يلتحق" به الآخرون، وعلى رأسهم "الحليف" رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل الذي لم يترك "وصفًا" ينطوي على "الذم" إلا واستخدمه في معرض التصويب على المنافسين المحتملين، على غرار توصيفه الخصوم بـ"الحربايات".
لكنّ ما قد لا يعرفه، أو يتجاهله، كلّ هؤلاء، يتمثّل في أنّ مثل هذا الخطاب "محظور" بموجب القانون الانتخابي، الذي صوّت معظمهم عليه، وفصّلوه على قياسهم، حيث تنصّ المادة 74 منه على وجوب أن يمتنع المرشحون عن التشهير أو القدح أو الذم وعن التجريح بأي من اللوائح أو من المرشحين، كما يفرض عليهم أيضًا الامتناع عن كلّ ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية أو العرقية أو التحريض على ارتكاب أعمال العنف أو الشغب.
ثمّة من يقول إنّ "العرف" يغلب على "القانون"، وأنّ لعبة "القدح والذم" وحدها تُشعِر الناس بالمنافسة، ويبرّر هؤلاء الأمر بالمقولة الشهيرة "إنّها الانتخابات يا عزيزي"، لكن هل من "رهانات" حقيقية على قدرة مثل هذا الخطاب على "تعبئة" الناس في الظروف الحالية؟ وما الذي يريده هؤلاء عمليًا من اعتماد مثل هذا الأسلوب؟.
يقول العارفون إنّ هذه الانتخابات تبدو "استثنائية" في سياقها على أكثر من مستوى وصعيد، لكن بالدرجة الأولى، بالنظر إلى انعدام "الحماسة الشعبية" إزاءها، خصوصًا بعد تراجع تأييد الشريحة الواسعة من الناس للأحزاب التقليدية، من دون أن يجد الجزء الأكبر من هؤلاء حتى الآن "المشروع البديل" الذي يثقون به، ما يدفع إلى تكريس حالة "لا مبالاة" شعبية إزاء الانتخابات، قد تترجم بنسبة اقتراع يُخشى أن تكون "الأسوأ" في تاريخ لبنان.
من هنا، تعتقد بعض القوى السياسية أنّ الخطاب "الشعبوي والتحريضي" قد يكون مفيدًا لـ"استنفار" الناس، و"حشد" الجماهير، أو بالحدّ الأدنى، "تحفيزهم" على الانخراط أكثر في المشهد الانتخابي، خصوصًا أنّ التجربة دلّت على أنّ هذا الخطاب، على مساوئه وعلّاته، قادر على جذب الأنظار، وبالتالي الاهتمام، وهو يُتّبَع أساسًا في دول تُصنَّف بـ"المتقدّمة"، بدليل ما شهدته الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة من أحداث، وُصِفت بأنّها "عار على الديمقراطية".
وإذا كان ذلك يقود إلى ترجيح أنّ مثل هذا الخطاب سيتصاعد بل يتفاقم أكثر في المرحلة المقبلة، سواء قبل الرابع من نيسان، الموعد النهائي لتشكيل اللوائح، في ظلّ "تنافس" بعض المرشحين على "حجز" مقاعدهم على بعض اللوائح، أو بعد ذلك، بعد أن تكون معالم "المعركة" قد تبلورت بصورة نهائية، فإنّ هناك من يعتقد أنّ "نفور" الناس بات "أبعد" ما يكون عن أن "يتأثر" بخطاب سياسي، مهما علا سقفه.
"إنها الانتخابات يا عزيزي"، عبارة لطالما رافقت "مواسم" الانتخابات في لبنان، لتبرير الخطاب "الشعبوي" الذي أضحى "سمة" أساسيّة فيها، لكنّها عبارة تبدو اليوم أكثر من "مستفزّة"، فالناس التي ما عادت قادرة على الصمود في ظلّ وضع مأسويّ على كلّ الصعد، ما عادت تكترث لسجالات "سطحية" بين متنافسين على "جنّة الحكم"، ممّن حوّلوا البلد إلى "جهنّم" بكلّ ما للكلمة من معنى، ليس على الطريقة المجازية فقط!.