من خارج السياق المتوقع للأحداث، جاء ترحيب وزارة الخارجية السعودية بما تضمنه بيان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، من إلتزام الحكومة باتخاذ الإجراءات اللازمة والمطلوبة لتعزيز التّعاون مع الرياض ودول مجلس التّعاون الخليجي، حيث شدد على ضرورة وقف كل الأنشطة السياسية والعسكرية والأمنية والاعلامية التي تمس سيادة المملكة ودول مجلس التعاون وأمنها واستقرارها، والتي تنطلق من لبنان.
في هذا الإطار، من الضروري الإشارة إلى أن ميقاتي، بالإضافة إلى مجموعة من الوزراء في حكومته، سبق لهم أن أطلقوا العديد من المواقف التي تصب في الإتجاه نفسه، منذ اندلاع الأزمة التي تسببت بها تصريحات لوزير الإعلام السابق جورج قرداحي سبقت توليه منصبه، لكن الرياض لم ترَ أنها البوابة لمعالجة الأزمة وعودتها إلى لبنان.
إنطلاقاً من ذلك، توضح مصادر سياسية مطلعة، عبر "النشرة"، أن الأساس في قراءة ما يحصل اليوم يتطلب العودة إلى الخطوط العريضة لموقف الرياض في الفترة الماضية، حيث كان التشديد على عنوانين أساسيين: الأول هو التأكيد على أن الأزمة هي بين الشعب اللبناني و"حزب الله"، على أساس أن مصدر التوتر يتمثل في "هيمنة" الأخير على الساحة السياسية، أما الثاني فهو ضرورة حصول إصلاحات حقيقية، بالتزامن مع حثّ القوى السياسية على مواجهته.
بناء على ما تقدم، تسأل هذه المصادر عن الذي تغير اليوم كي تبدل الرياض موقفها، لتؤكد أن ما كانت تريده من "المقاطعة" لم تنجح في الوصول إليه، بل على العكس من المتوقع أن تكون كارثية على حلفائها، خصوصاً في الإنتخابات النيابية، لا سيما بعد قرار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري الإنسحاب من المشهد، حيث تشير إلى أنّ هذا القرار سبب العديد من المتاعب لكل من رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، بينما لم تنجح حركة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في تعويض غياب "المستقبل".
على هذا الأساس، ترى المصادر نفسها ضرورة العودة إلى إستطلاعات الرأي التي تتناول الإستحقاق الإنتخابي، حيث ترجّح نجاح تحالف قوى الثامن من آذار و"التيار الوطني الحر" في الفوز بالأكثرية النيابية من جديد، بينما يواجه حلفاء السعودية أزمات متعددة على مستوى بناء تحالفاتهم، الأمر الذي دفع جعجع إلى مناشدتها العودة إلى لبنان، في حين يزور كل من النائب وائل أبو فاعور والوزير السابق ملحم الرياشي الرياض، للبحث في ما يمكن القيام به، بعد أن كان السنيورة قد التقى مسؤولاً سعودياً في باريس في الفترة الماضية.
في خلفيّات هذه العودة، تدعو المصادر السياسية المطلعة إلى عدم تجاهل ما يحصل على المستوى الخارجي من تطورات، سواء على مستوى توتر العلاقات السعودية الأميركيّة، نتيجة رفض الرياض تعويض النقص الحاصل في إمدادات النفط، بالتزامن مع إحتمال الوصول إلى إتفاق نووي جديد مع إيران، أو على مستوى تكريس العودة الخليجيّة إلى بعض الساحات الإقليميّة، الأمر الذي تأكد بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، في حين أن المملكة لا تزال تخشى تداعيات الحرب في اليمن، في ظلّ إستمرار هجمات حركة "أنصار الله" التي تستهدف أراضيها.
بالتزامن، تلفت هذه المصادر إلى أن هذه العودة جاءت بقرار سعودي خاص، نظراً لعدم حصولها على أي ثمن مقابل، حيث كان من الواضح أن الفريق الأساسي المعني، أي "حزب الله"، ليس في وارد تقديم تنازلات، لا بل حتى إستقالة قرداحي كانت ورقة قدّمت إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الشهيرة إلى الرياض، لا إلى الجانب السعودي، في حين أن حلفاءها اللبنانيين لم يكن لديهم إلا المواقف السياسية والإعلامية التي لا تؤثر في المعادلات.
في قراءة المصادر نفسها، هناك ملفّان أساسيان يرتبطان بهذه العودة: الإنتخابات النيابية والحرب في اليمن، في حين أن ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، الذي يجري التداول به، يبدو أكبر من قدرة الدول الخليجية على التأثير فيه، لكن أبعد من ذلك من الضروري النظر إلى الحديث المتكرر عن إعادة رسم التوازنات الداخليّة بعد الإستحقاق الإنتخابي، الأمر الذي قد يكون المحرك الأساسي لتبدل وجهة النظر السعوديّة، على إعتبار أن غيابها عن الساحة يعني خسارة مدوية فيها كانت حتى الأمس القريب تملك تأثيراً كبيراً عليها.
في المحصّلة، من غير المتوقع أن تنجح الرياض، في الفترة الفاصلة عن موعد الإنتخابات النيابية، في إحداث إنقلاب على الساحة اللبنانية من جراء هذه العودة، لكن المرجّح هو أنها تمهّد الأرضيّة لما هو أبعد من ذلك، إلا أنّ وضوح الصورة بشكل أكبر يتطلب الإنتظار بعض الوقت، لمعرفة معالم التوجهات المملكة الجديدة.