"لا يمكن التعرّف إلى أمّة حقاً حتى ندخل سجونها، ولا ينبغي الحكم على أمّة من خلال معاملتها لنخبة مواطنيها، بل من خلال معاملتها لأضعف مواطنيها". بهذه العبارة يُلخّص نيلسون مانديلا، نظرته للحكم على الأمم، وهو الذي قضى 27 عامًا في السجن قبل أن يصبح رئيس دولة جنوب أفريقيا.
وبالنظر إلى واقع السجون في لبنان، وبالتحديد سجون النساء، لا يمكن أن يحتلّ البلد مكانة مرموقة بين الدول. فالعذاب، بكل أشكاله، يتجلّى بمئات، بل بآلاف القصص التي ترويها سجينات قسى عليهنّ القدر إلى حدّ الحكم عليهن بالموت ألف مرّة في اليوم الواحد، وهن على قيد الحياة. فالعقوبة، للأسف، لا تنتهي مع انتهاء مدّة المحكومية، بل تستمرّ بعد خروجهن من السجن، والجلّاد واحد: نظرة المجتمع المُجحفة، والتي تصرّ على اعتبارهنّ مجرمات، وملاحقتهنّ بهذا الحكم المؤبّد.
تتحدّث رنا (إسم مستعار)، التي دخلت سجن بعبدا بعد توقيفها على خلفية شيكات من دون رصيد، عن الصعوبات التي واجهتها في السجن، لجهة الاكتظاظ وغياب النظافة وسوء التغذية ودمج السجينات من دون مراعاة الاختلاف في نوعية أحكامهن، وغيرها من المشاكل.
من السجن إلى جحيم المجتمع
تروي رنا شعورها، لدى خروجها، بأنها منبوذة في مجتمعها وحتى ضمن عائلتها، إذ تخرج السجينة من وراء القضبان لتجد سجنًا من نوع آخر بانتظارها في الخارج؛ فعدد كبير من أفراد المجتمع يعامل السجينات المسرَّحات على أنّهن مُجرمات. وتضيف رنا: "كنت أخاف الخروج إلى الشارع وأرغب بالبقاء في غرفتي بمفردي".
إلّا أنّ تدخّل إحدى الجمعيات التي تواكب السجينات حتى بعد خروجهن، وهي جمعية "دار الأمل"، شكّل علامة فارقة في مسيرة رنا. "لهذه الجمعية جميل لن أنساه، فهي كانت بمثابة الحاضن داخل السجن وخارجه، وساهمت بشكل كبير بترميم علاقتي مع عائلتي وأطفالي، من خلال معالجة نفسية واكبتني في مرحلة ما بعد السجن".
وتؤكد رنا أنّ "الدعم النفسي الذي قدّمته الجمعية كان له الدور الأبرز في تمكّنها من تخطّي العوائق النفسية. فالنشاطات لم تقتصر على مرحلة السجن، بل استمرّت في ما بعده. لقد كنت أُدعى برفقة أطفالي للمشاركة في نشاطات عدّة تقيمها الجمعية، وهذا ساهم بشكل كبير بتحسين علاقتي مع أسرتي وبإعادة اندماجي في المجتمع بشكل عام".
بدورها، تؤكد مديرة الجمعية السيدة هدى قارة على أهمية الدعم النفسي للسجينة في مرحلة ما بعد السجن، مُبديةً أسفها لأنّ "المجتمع، بشكل عام، يظلم هذه الفئة من النساء، فهنّ لم يُخلقنَ مذنبات، وقد نلنَ عقابهن في السجن، فلا يجوز أن يُنظر لهنّ بنظرة عار، فكل إنسان مُعرّض لارتكاب الأخطاء. وبالتالي، مقاربة هذا الموضوع يجب أن تكون إنسانية إلى أبعد حدّ، ويجب أن نمدّ أيدينا لهنّ، ونكون جسر عبور إلى عالم جديد. وإلّا فالبديل هو وصول هذه الفئات إلى مرحلة الحقد على المجتمع في حال وجدن أنفسهن منبوذات، ممّا قد يدفعهن إلى ارتكاب أفعال جرمية تعيدهنّ إلى الزنزانة مجدّدًا".
وتشدّد قارة على "أهمية حفظ كرامة كل السجينات، فمعظمهن يعترفن بأخطائهن ويسعين لفتح صفحة جديدة. وهنا تكمن أهمية متابعتهن على المستويين النفسي والاجتماعي، بالإضافة إلى تأمين أعمال يدوية لهن داخل السجن يتقاضين أجورًا عليها بهدف تشجيعهن". ولتقريب السجينات من عائلاتهن، تشير قارة إلى أنّ "الجمعية تتواصل مع الأهل، ومعظمهم يتجاوبون معنا ويحضنون السجينات".
من جهته، يعتبر رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان اللبناني النائب ميشال موسى أنّ "نظرة المجتمع لهذه الفئة من النساء لا تزال ظالمة إلى حدّ بعيد، وهي بعيدة عن الحقيقة. وبالتالي، لا بدّ من العمل بكافة الوسائل لتغيير النظرة المجتمعية. وهنا تكمن مسؤولية الجميع، بدءًا من المدارس، مرورًا بوسائل الإعلام، وصولًا إلى كل جهة معنيّة في هذا المجال، لإظهار الصورة الحقيقية ومكافحة خطاب التحريض والكراهية ضدّ النساء السجينات.
تأهيل السجينات وإعادة الاندماج
وفي ظل تقاعس الدولة عن القيام بواجباتها تجاه مواطنيها بشكل عام، والفئات المهمّشة على وجه الخصوص، تتدخل الجمعيات الأهلية لحماية هذه الفئة من جهة، ولمكافحة خطاب الكراهية والتمييز تجاه السجينات من جهة أخرى.
في هذا السياق، تشير مديرة جمعية "دار الأمل" الى أنّ "الدار مسؤولة عن ثلاثة من أصل أربعة سجون للنساء في لبنان، وهي منذ عام 1996 تساعد في هذا المجال، وقد عملنا على تأهيل هذه السجون". كما تؤكد أنّ "تأهيل الحجر غير كافٍ، بل الأساس تأهيل البشر وبالتحديد السجينات" لافتةً إلى أنّ "هناك موظفين بدوام كامل يتابعون أوضاع السجينات، كما لدينا أخصائيات في المجال الإجتماعي والنفسي يعملون على التأهيل، بدءًا من السجن وحتى بعد خروجهن في كافة النواحي". كما تشدّد على أنّ "الجمعية لا تفرّق بين جنسية أو طائفة، وعملنا لا يقتصر على الجانبين الإجتماعي والنفسي، بل يتعدّاهما إلى متابعة الملفات القضائية وتعيين محامين لهن عند الحاجة".
وتبيّن قارة أهمية التأهيل للسجينات، مضيفةً: "لذا نصارحهن بضرورة المرور بهذه المرحلة وأنّ الجمعية ستقف إلى جانبهن إلى أبعد الحدود". وتتحدث عن "تنظيم نشاطات للسجينات السابقات في مراكزها، يشارك فيها أشخاص فاعلين في المجتمع، وكل ذلك بهدف تغيير النظرة الظالمة لهذه الفئة، وهنا تشعر السيدات بنوع من الارتياح".
وحول البرامج الواجب اتّباعها لتأهيل النساء السجينات والمساعدة على إعادة اندماجهن في المجتمع، ودور الدولة في هذا الاطار، يأسف النائب موسى لوجود ثغرات كبيرة في هذا الإطار، معتبرًا أنّ "فترة السجن تحوّلت إلى مجرّد مدّة لقضاء محكومية بدل أن تكون لإعادة التأهيل. ففي نهاية المطاف، ستخرج السجينات، ومن الواجب مساعدتهنّ اندماجهن في المجتمع". كما يشدّد موسى على ضرورة أن تُدار السجون، بشكل عام، من قِبل إدارة مدنية وليس عسكرية، وذلك بالتعاون مع الوزارات المعنيَة.
وعن دوره كنائب في مراقبة ومساءلة الوزارات المعنية، يكشف موسى أنّ "لجنة حقوق الإنسان عقدت العام الماضي أكثر من 20 اجتماعًا، ووضعت خطة متكاملة تلحظ كافة الثغرات، وناقشنا مع الوزارات المعنية مختلف المشاكل، ووجّهنا كُتبًا للجهات المعنية. ولكن للأسف، في ظل غياب الإمكانيات وتدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في لبنان، وبالتزامن مع تفشّي فيروس كورونا، كل هذه العوائق حالت من دون الوصول إلى متابعة جدّية من قِبل المعنيين".
سوق العمل والصعوبات التي تواجه السجينات
قد يكون البحث عن فرصة عمل هو من أبرز الأولويات لأيّ سجينة بعد انتهاء فترة محكوميتها. وهنا تروي رنا تجربتها المُشجّعة، رغم العوائق التي واجهتها في البداية، مشيرةً إلى أنه "في الأشهر الأولى بعد خروجي من السجن، كان الحصول على فرصة عمل بمثابة حلم بالنسبة لي. وشخصيًا كنت أشعر بالإحباط، فسجلّي العدلي ممهور بالأحكام، وهذا الأمر كافٍ لرفض توظيفي في معظم الشركات"، موضحةً أنّ "جمعية دار الأمل استمرّت بالوقوف إلى جانبي حتى في هذا الموضوع، وعملت على تأمين أكثر من وظيفة لي في شركات مهمة. ولكن بسبب ظروفي العائلية ومتابعة شؤون أطفالي، لم أستطع الالتزام بعمل ضمن دوام ثابت، فكان الخيار باستئجار محل والعمل في بيع الألبسة بناءً على اقتراح من الجمعية".
وتضيف: "مع مرور الوقت والبدء بالعمل والإنتاج، تحسّنت الأمور شيئًا فشيئًا، وبدأت أسمع الأصداء الإيجابية من عائلتي وبعض المقرّبين. واليوم، يمكنني القول أنني تغلّبت على كل الظروف الصعبة والآثار النفسية المُدمّرة"، معتبرةً أنّ تجربتها يجب أن تكون درسًا لكل سجينة بأنّ مرحلة السجن ليست نهاية المطاف، بل هي خطوة مؤلمة في مشوار الحياة الطويل، ولا يجوز التوقّف عندها إلّا للاستفادة من دروسها. وهي رسالة أيضًا للأهل وللمجتمع بعدم إصدار الأحكام المُسبقة من دون الاطّلاع على الظروف المحيطة.
وعن دور "جمعية دار الأمل" في هذا المجال، تشير السيدة قارة إلى أنّ "لدى الجمعية مراكز تأهيل تواكب من خلالها السجينات فور خروجهنّ من السجن"، مشيرةً إلى "وجود صعوبات كثيرة في مرحلة ما بعد السجن، وأبرزها موضوع السجل العدلي الذي يُشكّل عائقًا كبيرًا أمامهنّ في حال أردْنَ الدخول إلى سوق العمل. وهنا يكون دورنا بالتعهّد أمام أرباب العمل بحسن سيرة وسلوك الخارجات، وإطلاعهم على الدورات التدريبية وبرامج التأهيل التي خضعن لها".
وتلفت قارة إلى أنّ "الجمعية تُنظّم في السجن دورات كمبيوتر ولغات أجنبية، بالإضافة إلى دورات محو أميّة، وفقًا للقدرات التعليمية لكل سجينة. وهي تكون بمثابة جسر عبور فور خروجهن"، مؤكّدةً "إنّنا تمكنّا من تغيير نمط حياة العديد من هؤلاء النساء.
دور المشرّع اللبناني؟
وعن دور المشرّع اللبناني في وضع إطار داعم من التشريعات والممارسات وفقًا لمقاربة حقوق الإنسان، بهدف جعل بيئة سجون النساء في لبنان إصلاحية، يشير النائب موسى، إلى أنه "بالرغم من العديد من الخطوات الإيجابية التي تقدّمنا بها إلى الأمام من أجل تحسين أوضاع السجون في لبنان، إلّا أنّ هناك مشاكل كثيرة مُعقّدة في ظل غياب الخطط والرؤى"، مشيرًا إلى مسؤولية القضاء في متابعة السجينات غير المحكومات والبتّ بقضاياهن".
وعن التمييز ضدّ المرأة في قانون العقوبات اللبناني، يلفت موسى إلى أنّه "مُتقدّم جدًا عن بقية الدول العربية، وهناك تقدّم ملحوظ على صعيد تلك الناظمة منها للمساواة بين المرأة والرجل، مع التأكيد على ضرورة احترام خصوصية المرأة"، مشيرًا إلى أنه "في الأمور التشريعية قمنا بواجبنا، ولكن المشكلة في السلطة التنفيذية التي ينبغي عليها وضع الخطط وتطبيقها"، معتبرًا أنّ "الوضع الإقتصادي في لبنان شكّل عائقًا أمام الدولة لإيلاء مسألة السجون الأهمية المطلوبة، وهنا برز دور جمعيات المجتمع المدني بالتعاون مع مُنظمة الصحّة العالمية والصليب الأحمر الدولي".
توصيات
تشدّد مختلف الدراسات الإجتماعية وتوصيات المنظمات العالمية على ضرورة توفير البرامج والخدمات التي تتيح تأهيل السجينات لفترة ما بعد السجن، مع مواصلة الضغط بكافة السبل لتصبح ممارسات سلطات السجون متوافقة مع المعايير الدولية النموذجية، بالإضافة إلى حثّ الإعلام على ضرورة الإضاءة على إشكاليات سجون النساء وحاجات السجينات حتى بعد خروجهن.
وللحدّ من إمكانية عودة السجينات المُسرَّحات إلى اقتراف الجرائم، لا بُدّ من تصميم برامج توعويّة تحول دون ذلك، بالتوازي مع اعتماد سياسات وإستراتيجيات لتمكين النساء والتخفيف من التحدّيات الاجتماعية بحقهنَّ. وتبقى النقطة الأبرز هي العمل على توعية المجتمع بكافة السُبل للحدّ من خطاب الكراهية الموجّه إلى هذه الفئة.
وبناءً للتجارب العالمية والمحلية، تفيد العبرة بأن لا ذريعة أو عذر لأن يستمر الوضع في لبنان على ما هو عليه، إذ من الواجب والحق حماية السجينات والحؤول دون تحوّلهن إلى فئة مُهمّشة، وتحويل السجن إلى نظام توقيف تأهيلي لا مجرّد مكان قاتم لقضاء فترة محكومية قد تدوم إلى ما بعد السجن.
في حال الحاجة للتواصل مع جمعية "دار الأمل"، يمكن استخدام: رقم الهاتف 01483508 البريد الإلكتروني info@dar-alamal.org