من يُتابع بعض وسائل الإعلام، وبعض المواقع الإخباريّة، وحتى بعض مواقع التواصل الإجتماعي، إلخ. يظنّ أن لا همّ للبنانيّين اليوم سوى الدفاع عن هذا الحزب أو ذاك التيّار أو هذه الشخصيّة المرشّحة أو تلك! لكن الواقع الفعلي هو غير ذلك. فهمّ أغلبيّة اللبنانيّين هي في مكان آخر تمامًا. وقبل الإستفاضة في الشرح لا بُد من التوقّف عند ظاهرة مُتناقضة جدًا تحصل حاليًا.
فمن الحملات الإنتخابيّة الإعلانيّة الباهظة الكلفة، مُرورًا بالتصاريح الشعبويّة المليئة بالحقد والغوغائيّة، وُصولاً إلى الصراع السياسي-القضائي-الإعلامي الكبير والذي تدور معالمه بين أكثر من طرف، بخلفيّة إنتخابيّة شعبويّة واضحة، ينقسم الشعب اللبناني إلى فئتين حصرًا: أقليّة صغيرة لا تزال تعيش في عقدها وأحقادها الدفينة، ولا تزال تعتبر "زعيمها" المُنقذ الوحيد المعصوم عن الخطأ، وهي تنشط على خطّ الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، وأغلبيّة كبيرة خرجت منذ مدة لا بأس بها من قوقعتها السياسيّة والطائفيّة، وهي لا تهتمّ حاليًا سوى بكيفيّة تأمين لقمة عيشها-بكل بساطة، حتى ولوّ كان البعض منها لا يزال يحتفظ في صميمه بشيء من الميول السياسيّة.
ومن الواضح أنّ زمن تأمين الحياة الكريمة لأفراد العائلة اللبنانيّة قد ولّى، أو أقلّه قد صار صعبًا جدًا، إلا لفئة قليلة جدًا من اللبنانيّين، شأنه شأن زمن العمل على رفع مُستوى الرفاهيّة للعائلة. وباتت أقصى الآمال تتمثّل حاليًا في كيفيّة دفع الفواتير المُتراكمة وفي تأمين أطول فترة صُمود مُمكنة بما تيسّر من أموال، إن مُكتسبة شهريًا أو مُخبّأة في المنزل، أو حتى عبر هاتين الوسيلتين في آن واحد! والكثير من العائلات صار همّها حصرًا تأمين الحد الأدنى من المأكل والمشرب!.
صحيح أنّ بعض اللبنانيّين ما زال مُصرّا على أنّ خلاصه هو بالتصويت لهذه الفئة وليس لتلك، وهو بفوز هذا الحزب وليس ذاك، وهو بإنتصار هذه الأكثرية وليس تلك، لكنّ الأصحّ أنّ الهمّ المعيشي صار هو الطاغي على كل الأحاديث والدردشات. ويكاد لا يجرؤ أحد على السؤال عن وجهة التصويت الإنتخابي، لأنّه حتى من لا يزال مُصرّا على دعم لائحة أو حزب من هنا وشخصيّة سياسيّة تقليديّة أو ناشئة من هناك، يتردّد في الحديث عن هذا الأمر في العلن، خشية من أيّ ردّ إنفعالي من المُستمع أو المُستمعين!.
وعلى الرغم من أنّ موعد تنظيم الإنتخابات النيابيّة صار على بُعد أسابيع قليلة فقط، فإنّ الحديث الغالب بين اللبنانيّين في زمننا الحالي، يتركّز على مدى إرتفاع سعر صرف الدولار، وعلى مدى تحليق سعر البنزين والمازوت والغاز، وعلى مدى إستفحال فاتورة المُحرّك الكهربائي الخاص، وفاتورة السلع الغذائيّة على أنواعها، والمُستلزمات الطبيّة، وأي سلعة أو خدمة يحتاجها الإنسان في حياته العاديّة. ومع كل سعر يتمّ لفظه، الكثير من التصفير، والكثير من الشتائم والأدعية السلبيّة في بعضالأحيان.
ونفسيّات أغلبيّة اللبنانيّين هذه الأيّام صارت مُتعبة ومرهقة، حيث غابت الضحكاتالخارجة من القلب، لصالح حالات سوداويّة مُستجدّة. والآمال بالمستقبل باتت مفقودة وداكنة، وغلب اليأس الكثير من النفوس إلى حد الإستسلام التام. وباب الخلاص الوحيد صار الهجرة إلى أي بلد عربي أو غربي لا فرق.فالمهمّ الخروج من لبنان، لأنّه حتى حلم الحُصول على مدخول بالعملة الصعبة لم يعد كفيلاً بتأمين حياة كريمة، في بلد فقد كلّ مقوّمات الحياة الطبيعيّة، من كهرباء وماء وطرقات وخدمات... وحتى من أخلاق!.
وعلى الرغم من الشعارات الطنّانة الكثيرة التي رُفعت وتلك التي سترفع في المُستقبل القريب، لمواكبة الإنتخابات النيابيّة من قبل القوى والجهات والشخصيّات السياسيّة المعنيّة، فإنّ اللبناني لم يعد يُصدّق شعارات التغيير، بغض النظر عن مُطلقيها. وهو لم يعد يثق سوى بما يملكه من أموال في جيبه، وحساباته تقتصر على تقسيم هذه الأموال على ما لديه من مصاريف ومدفوعات. ففي خلال العقود الثلاثة الماضية، أي منذ إنتهاء الحرب حتى تاريخه، سمع اللبنانيّون مئات الوُعود البرّاقة، من أطراف وقوى سياسيّة مختلفة ومُتضاربة، وفي أزمان مختلفة ومتغيّرة أيضًا، لكنّ شيئًا من هذه الوعود لم يتحقّق مع سماع الكثير من التبريرات والحجج، لبلّ صارت الأمور أسوأ بكثير على مختلف الصُعد، وُصولاً إلى تكافل وتضامن العديد من الجهات السياسيّة والسلطويّة والمصرفيّة على سرقة ودائع اللبنانيّين وجنى أعمارهم، عبر وزارات ومؤسّسات فاشلة، وعبر صناديق وهيئات هدر وسرقة، وعبر صفقات وسمسرات لا تعد ولا تُحصى، وعبر هندسات ماليّة غير مدروسة وأطماع مصرفيّة شرهة لأقصى الدرجات.
في الخلاصة، لا يُمكن لأحد إعادة الأيّام المَهدورة من حياة اللبنانيّين منذ سنوات حتى تاريخه، والحبل على الجرّار، حيث أنّ أغلبيّة كبيرة من اللبنانيّين تسير حاليًا على هامش الحياة، بحيث أنّ أيّامها فارغة ومُتشابهة، ولا بصيص أمل فيها لا بإنتخابات قريبة ولا بسواها، للأسف الشديد.