قبل نحو ستّ سنوات، وعلى أبواب الانتخابات الرئاسية، التي خلطت "حابل" التحالفات في لبنان بـ"نابلها" كما يُقال، قبل أن تفضي إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية بتموضعات "مشكَّلة" غير مفهومة في غالبها، انتهى عمليًا الاصطفاف الذي بقي يتحكّم بالبلاد والعباد على مدى عشر سنوات، والذي قسّمها إلى معسكرين بين "8" و"14" آذار.
وقبل أربع سنوات، وتحديدًا في الانتخابات النيابية لعام 2018، قيل إنّ هذا الاصطفاف السياسي انتهى رسميًا، وإنّه ولّى إلى غير رجعة، خصوصًا بعدما خاض "الحلفاء القدامى" الاستحقاق "فرادى لا جماعات"، إن جاز التعبير، رغم أنّ القانون الانتخابي فرض للمرّة الأولى في تاريخ لبنان، مبدأ "اللوائح" وفق نظام وُصِف بالنسبي، ولو بدا أكثريًا مقنّعًا.
تكرّس هذا الأمر أكثر مع توالي الأحداث على امتداد السنوات الماضية، والتي جعلت كلّ اصطفافات الماضي "تهوي"، على وقع "الانهيار" الذي شهدته البلاد، بدءًا من الحراك الشعبي غير المسبوق في العام 2019، وصولاً إلى "كمّ" الأزمات المالية والاقتصادية التي أثقلت كاهل المواطنين بالمُطلَق، و"عرّت" الطبقة السياسية بكلّ "فروعها"، إن جاز التعبير.
لكن، مع بدء العدّ العكسي للاستحقاق الانتخابيّ المقبل، ورغم أنّ التحالفات والترشيحات تبدو "أبعد ما يكون" عن اصطفافات الماضي القريب والبعيد، عاد الحديث عن "معسكرين" تفرزهما هذه الانتخابات، وعن "سباق" بين المعسكرين القديمين الجديدين، بدفعٍ من عواصم إقليمية كالرياض وطهران، لانتزاع "الأكثرية"، وبالتالي إعادة "عقارب الساعة" إلى الوراء.
وقد يكون البيان الذي صدر عن تيار "المستقبل"، المنسحب من المعركة الانتخابيّة، والمعتكف حتى إشعار آخر، لافتًا بهذا المعنى شكلاً ومضمونًا، لجهة ما انطوى عليه من "تضامن" قد يكون غير مسبوق منذ فترة طويلة مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، في وجه القرارات القضائية التي صدرت بحقه، رغم أنّ "مستقبليّين" كثُرًا يحمّلون الأخير أساسًا مسؤولية "تراجع" زعيمهم سعد الحريري، وأفول نجمه بشكل أو بآخر.
صحيح أنّ المحسوبين على تيار "المستقبل" والمقرّبين منه يرفضون أن تفسيرات أو استنتاجات أو حتى تأويلات لبيان هيئة الرئاسة الذي يصفونه بـ"المبدئي أولاً وأخيرًا"، وبالتالي لا يحبّذون "تضخيمه" أو "تحميله ما لا يحتمل"، إلا أنّ الصحيح أيضًا وفق ما يرى آخرون أنّ مثل هذا البيان لم يصدر يوم كان الحريري لا يزال "ناشطًا" في السياسة، وقبل أن يعلن "عزلته"، ما يدحض بالمُطلَق فرضية "البراءة" التي يروّج لها أتباع التيار "الأزرق".
وعلى الرغم من أنّ تيار "المستقبل" الذي أخرج نفسه من الساحة السياسية، بعزوفه عن خوض الانتخابات المقبلة، لن يكون جزءًا من "المعادلة الجديدة" التي ستفرزها المعركة المرتقبة، ثمّة من يعتبر أنّ كلّ "سلوكه" في الآونة الأخيرة ينطوي على حسابات "انتخابية"، وهو يريد أن "ينصّب" نفسه "اللاعب الأول" على الساحة السنية، ولو بقي من دون كتلة برلمانية، وهو يعتبر أنه حقق "الإنجاز" بثنيه معظم "الطامحين" عن خوض لعبة "وراثته" الخاسرة.
من هنا، يمكن أن يُفسَّر بيان "المستقبل" الأخير على أنّه بالفعل بمثابة "إثبات تموضع"، علمًا أنّ العارفين لا يجدون "مبالغة" في ربط كلّ ما سبق، بالتطور على مستوى العلاقات اللبنانية السعودية، في ضوء "الانفتاح" المستجدّ من جانب الرياض، بعد فترة من "القطيعة غير المسبوقة"، التي قد لا يكون مُبالَغًا أيضًا القول إنّها السبب "الجوهري" لاعتكاف الحريري، الذي وجد نفسه في لحظة معيّنة من دون "مظلّة" هو بأمسّ الحاجة إليها.
وبعيدًا عن موقف "المستقبل" ودلالاته وتبعاته المتوقَّعة، ثمّة من يؤكد أنّ "مقاربة" العودة إلى الاصطفافات الماضية، ولو بتسميات جديدة، بدأت "تطغى" على طريقة التعامل مع الانتخابات المقبلة، وما عودة الرياض إلى لبنان في هذا التوقيت تحديدًا، وقبل أقلّ من شهرين من الاستحقاق، سوى الدليل على ذلك، ولا سيما أنّ هذه العودة أتت من خارج السياق ومن دون مبرّرات، ولو حاول البعض وضعها في إطار "جهود متراكمة" بقيت نشطة خلف الكواليس.
وثمّة من يشير إلى "التزامن" الذي لا يمكن اعتباره "مصادفة"، بين الحديث عن عودة السعودية إلى لبنان، وزيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت، إذ أتى ليعكس مرّة أخرى وجود "سباق" بين طهران والرياض على "الظفر" بالساحة اللبنانية إن جاز التعبير، تزامنًا مع تطورات ومستجدات على الساحة الإقليمية، قد لا تكون بسيطة، وعلى رأسها الاتفاق النووي الذي يقول الأوروبيون إنه بات "قريبًا جدًا"، وقد يكون "مسألة أيام".
وثمّة في هذا السياق من يعتقد أنّ عودة الرياض إلى بيروت قد تكون مرتبطة بهذا الاستحقاق تحديدًا، إذ قد تكون الساحة اللبنانية، كما دأبت، "صندوق البريد" لإيصال الرسائل في القادم من الأيام، في ضوء ما يمكن أن يستجدّ في حال أبرم الاتفاق، وطريقة تلقّفه من جانب دول المنطقة، وعلى رأسها السعودية، التي عادت علاقتها مع إيران لتتلبّد أخيرًا، في ضوء "تجميد" الحوار الثنائي الذي كان قائمًا بينهما منذ أشهر، على وقع "الإعدامات" الأخيرة في المملكة.
وإذا كان استنفار "حزب الله" لافتًا في هذا الإطار، من حيث "تأهّبه" للانتخابات، وإعلانه أنه يخوض فيها "معركة حلفائه" قبل "معركته"، وهو ما ينطوي على دلالات واضحة لجهة رغبته بـ"ضمان" الأكثرية في البرلمان المقبل، فإنّ هناك من يتحدّث عن مساعٍ جدّية قد تدخل الرياض على خطّها، لمحاولة إيجاد "توازن"، من خلال تشكيل "أكثرية موازية" معارضة للحزب، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ هذا الفريق "تأخّر كثيرًا" في مبادرته.
في المحصّلة، قد لا تكون صورة الانتخابات المقبلة قد تبلورت بعد، لجهة التركيبة النهائية للتحالفات، ولا سيّما بعدما أدّى اعتكاف "المستقبل" وعزوفه إلى "إرباك" واسع على الساحة السنّية، لكن الأكيد أيضًا، أنّ قوى إقليمية عدّة بدأت تعدّ العدّة للعودة من خلال الاستحقاق الانتخابيّ، عودة قد تطرح المزيد من "الإشكاليات" على أبواب انتخابات، يعتقد الكثير من اللبنانيين أنّها "تقفز" فوق "الانهيار" الذي لم يستفيقوا من أهواله بعد!.