كم يتمنى اللبناني المغترب ان يكون قد عاش زمن اغترابه في الولايات المتحدة منذ مئة عام وليس في يومنا هذا. وقائع لا تحصى ولا تُعدّ دوّنتها الصحف المهجرية المحفوظة في مكتبات نيويورك والكونغرس، عن نضالات المهاجرين اللبنانيين، الذين وصلوا الى القارة البيضاء الباردة، وأسّسوا فيها أعمالهم الى جانب الإيرلنديين والإيطاليين، وشيّدوا المؤسسات وصاغوا الحلى والملابس للأميركيين في مدينة لورنس في ولايتي ماساتشوستس ودانبري الأميركية. واجهوا العواصف والثلوج، باعوا " الكشّة" على أكتافهم، نساءً ورجالا، وجمعوا " القرش عالقرش" ليرسلوه للأهل في لبنان، حتى تلوّنت "سطيْحات" المنازل بالقرميد الأحمر ابتداء من عام 1890، بعدما كانت مربعات من طينٍ وبرد.
وسط الثلوج عاشوا في بيوت متواضعة لم تكن تعرف الكهرباء، تواصلوا بالبريد الشهري مع الأهل في لبنان، ليطّلعوا على أحوالهم ومعاناتهم مع "العثملّي"، الذي كان ينكّل باللبنانيين وتحديداً أهل جبل لبنان.
في السياسة حملوا القلم وتوحّدوا ضدّ عدوّ واحد، كتبوا للسلطات الأميركيّة عن الظلم والقمع في لبنان على يد العثمانيين. نسيَ جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومخايل نعيْمة الأدب، واستلّوا قلم السياسة، ناضلوا في الصحف المهجريّة، فكانت الصحافة هي البوّابة لتحرير لبنان. فحين كان جبران أمين سرّ المراسلات باللغة الإنكليزيّة لـ"الجبهة المركزية لتحرير سوريا ولبنان" ، كان الريحاني أمين سرّها للغة العربيّة.
وبعد مئة عام، استعاد التاريخ نفسه، لكن مع لاعبين جدد، وعادت مشاهد الهجرة الى بدايتها، كما استُعيد الخطاب السياسي مع نفس الكلمات، والوعود التي قطعها مظفّر باشا والبطريرك الماروني مار يوسف الحويك في ساحة بلدة العاقورة عام 1900، لبناء معامل أخشاب ومساعدة المزارعين للبقاء في أراضيهم، لكنها لم تنفع... فهجروا الى بلاد الله الواسعة، هو نفس الخطاب الشعبوي اليوم، يُستخدم في الحملات الإنتخابيّة، الّتي تحمل وعوداً ببناء الدولة والكهرباء والماء والبنى التحتيّة العصريّة... والنتيجة نفسها، فأغلب وجوه الشباب بائسة تنتظر على أبواب السفارات الأجنبيّة.
كم يتمنّى المغترب اللبناني في الولايات المتحدة ان يكون عاش لحظات التحرّر من "العثملّي"، ورقص الدبكة مع مواطنيه في شوراع مانهاتن يوم وصل خبر الأول من أيلول 1920، يوم إعلان دولة لبنان الكبير، ليحتفل اللبنانيّون بنتيجة نضالهم في "جبهة واحدة" فقط ضد محتلّ ظالم.
كم كان بطلاً ذاك المغترب الذي خبأ "صبّاطه" تحت إبطه عام 1909، حين غادر "قبلان أسعد عيد" قريته "الجليْليّة"-الشوف، وترك منزله "حافياً" حتى وصل الى مرفأ بيروت، وهو لا يملك سوى أحلامه والحذاء، وانطلق في مسيرة حياة زاخرة بالكدّ والتعب تاركاً وراءه رواية بطولية عن مهاجر لبناني وعائلة أصبحت تشكّل قرية في Fall River-Massachusetts.
لم يكن للمغترب اللبناني سوى حلم واحد، هو العيش الكريم وبناء مستقبل أفضل من المكان الذي غادره. اما اليوم، فقد تغيّرت أحلام قسم كبير من اللبنانيين الذين وصلوا الى القارة الأميركية في ظروف أفضل من تلك التي عاشها أجدادهم من المهاجرين. لكن السعي وراء "الألقاب الجوفاء" أصبح الحلم والهدف، والأكثر طلباً في بداية القرن الحالي. أصبح اللبناني أكثر طلباً للشهرة ولو مزيّفة، فارتفعت أسعارها مع أنها رمزية، "وكلّو بسعرو"، من سفير نوايا حسنة، الى ألقاب فخريّة، وصولاً وليس آخراً الى مستشار للوزارات في الخارج مع أنّ للبنان ممثلين تُرفع لهم القبّعة.
ومن مناضل مهاجر طامح للوصول الى تجارة كبيرة تؤمن مستقبل أفضل لأبنائه، الى مُتسوّل على أعتاب الحكّام اللبنانيين، مقدماً الهدايا الفاخرة "لسكرتير الزعيم"، للحصول على لقب يرفع من قيمته في المجتمع. لا بدّ من الإشارة الى انّ البعض منهم يعمل بنشاط، في حين يستخدم آخرون اللقب من أجل صفقات مشبوهة، حيث نُشر مؤخراً خبر عن بطل جديد في سلك الدولة برع في تبييض الأموال، رافعاً إسم لبنان على صفحات المجلاّت.
وتعرضُ لنا الشاشات اللبنانيّة لقاءات صحفيّة مع لبنانيين في نيويورك تحت إسم "كبير المستشارين الإقتصاديين"، وهو ليس أكثر من موظفّ عادي في شركة درجة ثالثة. اما عن المقابلات الطّنانة مع آخرين يتحدثون عن نشاطاتهم ونجاحاتهم في اميركا، وهم لا يملكون سوى شهادات مذكرّات توقيف في عمليّات نصب واحتيال. وأتت حلقات مؤتمرات "الطاقة الإغترابيّة" التي فتحت للكثيرين من المغتربين المقتدرين باب الظهور، والمؤتمرات بحدّ ذاتها أصلاً هي فكرة نبيلة وعظيمة، لكن بعض "المُتمظهرين" بلباس الثروات، راحوا يقدّمون برامج قيّمة لبناء دولة لبنان الجديد، لكنهم هربوا عند أول "احتراق دولاب" مع مشاريعهم الإقتصادية وعواطفهم الوطنيّة، تاركين الوطن يصارع الفقر وحيداً.
اما آخر صيحات الظهور التي يسعى اليها اللبنانيون ما إن يجمعون "أكثر من المليون بقليل" هو البروز على صفحات مجلّة فوربس، التي تتحدّث عن أكثر القوائم شهرة في العالم. ويدور الحديث اليوم في الولايات المتحدة عن ضحايا برنامج تنظّمه إعلاميّة مع فريقها، يقبضون 50 ألف دولار للشخص الواحد، مقابل ظهور صور البعض عبر الاعلام الأميركي مع "رشّة تبييض" لصورتهم تصنع من أحدهم رجل أعمال مزيّف من وزن جيف بيزوس وإيلون ماسك.
أمّا عن موضوع انتحال صفة، فحدّث ولا حرج. فمن الذين يعرّفون عن أنفسهم بالأطبّاء والمهندسين، وهم من هذه المهن برّاء، يعملون في وظائف أقلّ من متواضعة، مروراً بالذين لا ينفكّوا ان يعرفوا عن أنهم مستشارين سياسيين في الأمم المتحدة، وكانوا قد عملوا مع فريق كمتدرّبين في مدّة لا تتجاوز الأشهر القليلة في بعثة ما، وصولاً وليس آخراً الى لقب سفراء النوايا الحسنة، التي يشترونها الشباب "بالكيلو" حتى ولو من قبائل "البانتو" في كاتانغا، وبالعملة المحليّة. فقط حتى للمناداة بسعادة السفير.
بالفعل إنها مصيبة ومرض صَعُب على شركتي "فايزر" "ومودرنا" ان يجدا لها لقاحاً. ويحزّ في نفس اللبناني العاقل، انه لو تتضافر جهود اللبنانيين كما في القرن الفائت، متناسين فكرة "الأنا" والألقاب والمظاهر، التي لا تقدّم ولا تؤخر، ولم نجد مثيلها في المجتمعات الأجنبيّة التي تعيش بشكل طبيعي في القارة الأميركية، لوفّرنا على لبنان شرف الصدور على لائحة الدول الأكثر فقراً في العالم في منظّمة الأمم المتحدة، ولوفّرنا على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي كتابة آخر برقيّة لأمين عام المنظمة الدوليّة أنطونيو غوتيريش يطلب فيها إرسال مواد غذائيّة للشعب اللبناني المعوَز.
يبقى ان نذكر ان عدداً كبيراً جداً من اللبنانيين يعمل في الظلّ، لمساعدة الأهل في هذه الأزمة العصيبة، ولا يرغبون حتى بذكر أسمائهم في أيّ صحيفة او موقع إلكتروني، غير أن قسماً ما زال يعيش بنفسيّة الإقطاع الإجتماعي، فيأخذ الصور الى جانب كل علبة رزّ وسكّر وزيت دوّار الشمس، لينظر اليه الناس تحت الشمس، لكن صدق من قال أنّ "الشمس شارقة والناس قاشعة".
الأمم المتحدة-نيويورك