عاد في الأيّام الماضية الحديث مُجدّدًا عن قرب توقيع لبنان على إتفاق مع صندوق النقد الدَولي، وترافق هذا الكلام مع بلبلة أثارها تعويم مسألة "كابيتال كونترول" بعد طول سبات. لكنّ وفي ظلّ إستمرار غياب أيّ خطة إصلاحيّة وإنقاذية واضحة من قبل الحُكومة والسلطات المعنيّة في البلاد، بالتزامن مع إستمرار تفشّي الغلاء وتمدّد التضخّم وتوسّع البطالة، ما زالت أسئلة الناس المُحقّة بشأن خُطة الإنقاذ التي من شأنها وقف مسار الإنهيار وإعادة الإستقرار، وخُصوصًا بشأن أموالها وودائعها في المصارف، تُطرح بالصوت العالي، وما من مُجيب! ويُمكن في هذا السياق تسجيل المُلاحظات التالية:
أوّلاً: في كل دول العالم التي تواجه أزمة إقتصاديّة-ماليّة حادّة، تُسارع السُلطات المعنيّة وبشكل شبه فوري إلى فرض إجراءات قاسية على حركة الأموال، لا سيّما لجهة منع خروج الرساميل من المصارف إلى الخارج، أو ما يعرف بإسم "كابيتال كونترول"، وكذلك لجهة تحديد نسبة السحوبات المسموحة شهريًا لكل مودع. ويتمّ عادة اللجوء إلى هذا "السيناريو" بهدف إستيعاب الصدمة السلبيّة الناجمة من الأزمة الإقتصاديّة-الماليّة، وتهدئة نفوس المودعين، لتمرير "العاصفة"-إذا جاز التعبير، بأقلّ ضرر مُمكن. لكن في لبنان جرى التعامل مع الأزمة التي شكّلت إحتجاجات 17 تشرين الأوّل من العام 2019، نقطة تفجّرها، بشكل إرتجالي ومتردّد وفاشل تمامًا، فأقفلت المصارف لفترة طويلة بشكل زاد من خوف المودعين على أموالهم، وجرى تحديد السحوبات بكميّات ضيئلة جدًا لا تكفي لسدّ رمق عائلة صغيرة، الأمر الذي ضاعف من حجم القلق، وتمّ أيضًا وقف التحويلات إلى الخارج لشرائح واسعة من المودعين، وترك مجموعة من كبار المودعين ومن النافذين لتهرّب أموالها إلى الخارج بكل حريّة! والأسوأ أنّه بعد مرور سنتين ونصف السنة على الأزمة، تواصلت عمليّات حجز الأموال بشكل غير قانوني، وتواصلت عمليّات إقتطاع نسب كبيرة من المبالغ المحدودة التي يستطيع المودع سحبها من ودائعه بالعملات الأجنبيّة، مع تحديد سقف منخفض جدًا لنسب السحب بالعملة الوطنيّة، وذلك بحجّة التقيّد بتعاميم مصرف لبنان! وتفاقمت الأزمة أكثر فأكثر أخيرًا مع رفض مُعظم الجهات التجاريّة والماليّة، السماح للناس بإستخدام البطاقات المصرفيّة للتبضّع، علمًا أن المصارف تسدّد للمودعين نسبًا كبيرة من رواتبهم ومن ودائعهم عبر هذه البطاقات بشكل إلزامي وغير قانوني. والأمثلة التي تدلّ على سوء تعامل السُلطات التنفيذيّة والمصرف المركزي وإدارات المصارف مع الناس والمودعين لا تُعدّ ولا تُحصى...
ثانيًا: أمّا وقد حصل ما حصل، من المستغرب جدًا أنّ بوادر الإنقاذ غائبة كليًا، والناس لا تزال تنتظر رؤية بصيص أمل، وتحديدًا رؤية إطلاق الحكومة خريطة طريق واضحة المعالم، تلجم الإنهيار الحاصل، وتضع برنامجًا لبدء التعافي، والأهم تُحدّد مسارًا لإعادة أموال المُودعين-ولوّ بالتقسيط ولوّ على سنوات عدّة. لكن لا شيء من هذا القبيل حتى تاريخه. وحتى ما حصل في الساعات الماضية من تعويم لقانون "كابيتال كونترول" هو لزوم ما لا يلزم، لأنّ الناس العادية مُنعت أصلاً من تحويل أموالها، وحتى من سحب مبالغ ضئيلة منها في لبنان، بينما تركت الحريّة، من تحت الطاولة، للنافذين ولعدد من كبار المودعين المحظوظين، لتهريب أموالهم من دون حسيب أو رقيب. وبالتالي، لن يُغيّر تمرير قانون "كابيتال كونترول" الواقع المأساوي الذي نعيشه، لأنّه وكما يقول المثل الشعبي "يلّي ضرب ضرب، ويلّي هرب هرب"! وبالعكس من الغاية الظاهرة، إنّ من شأن القانون المذكور أن يحمي المصارف من أيّ دعاوى قانونيّة، لأنّه يُشرعن الإجراءات غير القانونيّة والتعسّفية التي تقوم بها إزاء المودعين، بحجّة تطبيقها تعاميم مصرف لبنان. وإذا إفترضنا عن حسن نيّة، أنّه من الضروري تطبيق قانون "كابيل كونترول"-ولوّ بعد طول تأخير، يبقى السؤال المشروع والذي هو من حقّ كل المودعين: أين هي أموال الناس في المصارف؟ وأين هي الخطة التي تكفلها السُلطة اللبنانيّة بغضّ النظر عن هويّة رئيس الجمهوريّة وعن هويّة رئيس مجلس النواب والنواب وعن هويّة رئيس الحكومة وأعضائها، لأنّ الحكم إستمراريّة؟ نعم، أين الخطة الإصلاحيّة-الإنقاذية التي تتعهّد بإعادة أموال المودعين فعلاً لا قولاً، وتضع برنامجًا عملانيًا لهذا الأمر، ولوّ عبر السداد التدريجي على مدى سنوات عدّة؟!.
ثالثًا: كل القرارات القاسية وغير الشعبيّة التي تتخذها السُلطة في لبنان تخرج إلى العلن بحجّة ظاهرة تدّعي الإلتزام بتعليمات لبلّ بشروط صندوق النقد الدَولي، وإلا فإنّ لبنان لن يحصل على أي أموال من الصندوق! إذا سلّمنا جدلاً أنّ الصندوق حريص على إعادة التوازن إلى مداخيل الدولة في لبنان وإلى مصاريفها ومدفوعاتها، فأين الحرص على التوازن بين دخل المواطنين اللبنانيّين ومصاريفهم ومدفوعاتهم؟! صحيح أنّ وقف الإنهيار الإقتصادي والمالي يتطلّب وقف مسار إنهيار الدولة ومؤسّساتها، لكنّ الأصحّ أنّ وقف الإنهيار يتطلّب أيضًا وقف إنهيار العائلات اللبنانيّة! فكيف يُمكن إعادة الإستقرار إلى الدورة الإقتصاديّة، ووقف سقوط العملة الوطنيّة، طالما لا توجد أيّ خطة لضخّ الإستثمارات، ولإيجاد فرص عمل لنسب هائلة من الناس فقدت وظائفها أو بات راتبها يقلّ عن كلفة إنتقالها إلى العمل والعودة منه، من دون أيّ مبالغة في التوصيف إطلاقًا؟! من حقّ صندوق النقد الدَولي أن يُطالب الدولة بإجراءات تحفظ أمواله من الذهاب سُدى، لكن من حقّ اللبنانيّين على دولتهم أن تنظر بأوضاعهم، لأنّ قسمًا كبيرًا لم يعد يملك ليس ما يُسدّد به فواتيره الدوريّة، بل ما يشتري به قوته اليومي، وقوت أفراد عائلته!.
في الخلاصة، إنّ الوضع كارثي، وحتى هذه اللحظة لا تزال السُلطة تتعامل مع الإنهيار بلا مبالاة رهيبة، وبعجز غير مبرّر. والعدد المحدود من الإجراءات الخجولة المُتخذة من قبلها، لا تخرج عن سياق الدعاية الإنتخابيّة لبعض الجهات، وبعض الإستعراضات الشعبويّة لبعض الجهات الأخرى.