أخيرًا، بات بالإمكان القول إنّ "معركة" الانتخابات النيابية المقرّرة في منتصف أيار المقبل، قد بدأت بشكل رسمي ونهائي، بعد إقفال باب تسجيل اللوائح عند منتصف الليلة الماضية، وخروج المرشحين الذين لم ينخرطوا في تحالفات من المنافسة تلقائيًا، ليبدأ العدّ العكسي نحو "اليوم الموعود"، ولو أنّه لا يزال بالنسبة إلى كثيرين، عرضة للتشكيك والمساءلة.
صحيح أنّ الطريق نحو هذه المعركة لم تكن سهلة ولا ميسّرة، بل كانت شاقة ومليئة بالألغام والأشواك، ليس أقلّها "الرهان" الذي لم تنته فصوله بعد، على "تطيير" محتمل للاستحقاق، الذي يبدو أنّ لا أحد يريده فعليًا، ولو أكّد الجميع منذ اليوم الأول التزامهم به ورفضه لأيّ سيناريو "تمديد" للبرلمان الحاليّ، تحت أيّ ذريعة أو حجّة، وبمعزل عن طبيعتها.
ولعلّ سير النواب بالتمديد للمجالس البلدية على سبيل المثال، بناءً على ذرائع واهية وغير مقنعة، غذّى هذه المخاوف، خصوصًا أنّ الأمر مرّ مرور الكرام، ومن دون "طنّة ورنّة"، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّ "السيناريو" نفسه لا يمكن أن يسري على الاستحقاق النيابي، الذي بات الآن بحكم "الأمر الواقع"، بعد اكتمال كلّ التحضيرات اللوجستية والسياسية له.
لكن، ما الذي يعنيه "انطلاق" المعركة على أرض الواقع؟ ما الذي ينتظر اللبنانيين خلال المدّة الفاصلة عن موعد الانتخابات، والتي تقارب شهرًا وعشرة أيام؟ هل يتحمّل اللبنانيون أساسًا المزيد من الوعود "الشعبوية" التي دلّت التجربة أنّها تبقى "حبرًا على الورق"، فكيف بالحريّ وهم يواجهون أزمة وجودية قد لا تكون مسبوقة في التاريخ الحديث؟
صحيح أنّ البلاد بدأت تعيش "أجواء" الانتخابات منذ أسابيع، مع بدء الإعلان عن المرشحين، وأنّها شهدت "أوجها" في عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة، حيث تكثّفت "مهرجانات" إطلاق اللوائح، إلا أنّ الصحيح أنّ "المعركة الحقيقية" تبدأ اليوم، بعد أن يتفرّغ المرشحون لها، في أعقاب مرحلة كان "شغلهم الشاغل" خلالها إنجاز التحالفات وإسقاط الأسماء على اللوائح، مع كلّ المشاكل التي نجمت عن ذلك، وخرج بعضها إلى العَلن بطبيعة الحال.
أما اليوم، فقد أصبح كلّ شيء محسومًا، وما عاد تعديل اللوائح ممكنًا، بحسب ما ينصّ القانون، ما يفرض على المرشحين "التفرّغ" لحملاتهم في وجه بعضهم البعض، وهي حملات يبدو أنّها ستخضع لنتائج الاستطلاعات والتقديرات التي قام بها كلّ مرشح، حول "خصمه المباشر" الأول، من دون أن ننسى الدور الذي ستلعبه القوى السياسية، وقد بدأته بمعظمها، في الاستقطاب والحشد والتعبئة، ولو استخدمت في سبيل ذلك، بعض "الأسلحة" المحرّمة بموجب قانون الانتخاب.
من هنا، يُتوقَّع أنّ شهرًا "ساخنًا وحاميًا" ينتظر اللبنانيين، سيكون عنوانه "صراعات" المرشحين واللوائح، ومحاولات "تحجيم" الآخرين، فضلاً عن الوعود الانتخابية "المجرَّبة"، والتي لا تخلو من "الشعبوية"، ربما لتعويض غياب "البرامج الانتخابية" الحقيقية عن معظم اللوائح، أو اقتصارها، إذا ما وُجِدت، على "العموميات" التي لا تغني ولا تسمن، بل لا تقدّم أو تؤخّر شيئًا على المعادلة، طالما أنّها لا تقترن بخطوات "عملية" فعلية.
وقد يكون من المجدي العودة إلى بعض "الوعود" التي أطلقت في دورة 2018، والتي لا تسع المجلّدات، من البحبوحة الاقتصادية المُنتظَرة، إلى الوظائف التي ستوزَّع على اللبنانيين، فإذا بالنتيجة صادمة: انهيار اقتصادي غير مسبوق، ودائع اللبنانيين محتجزة في المصارف، البطالة في أوجها، الهجرة تسجّل معدّلات قياسية، والشباب بمعظمهم أصبحوا خارج الوطن، ومن لا يزال في ربوعه، يبحث بكلّ طاقته عن أيّ "فرصة" في الخارج.
إزاء كلّ ما سبق، ثمّة أكثر من سؤال يطرح نفسه، فبأيّ "نَفَس" و"روحيّة" تأتي هذه القوى لتخاطب الرأي العام بعد أربع سنوات من "الانهيار"؟ وكيف ستبرّر هذه القوى لنفسها الدخول في مواجهات "شعبوية" مع خصومها، فيما الناس يفتقرون إلى "الحدّ الأدنى" من احتياجاتهم، وباتوا "عاجزين" عن الصمود، إذا لم يأتِهم "الدعم" من أحد المغتربين في الخارج؟
في هذا السياق، قد يكون "معبّرًا" التزامن بين الحملات الانتخابية وشهر رمضان المبارك، الشهر الفضيل الذي كشف أكثر عن حجم "الانهيار"، بعد أن أصبح الإفطار البسيط يكلّف ما يقارب الراتب الكامل، بل إنّ صحن الفتوش الذي يُعَدّ من "الثوابت" على المائدة الرمضانية اليومية بات يكلّف وحده أموالاً باهظة، لا قدرة للكثيرين على إنفاقها.
لكلّ ما سبق، قد لا يكون مُبالَغًا به القول إنّ الحملات الانتخابية في ظلّ هذه الظروف قد تكون "معقّدة جدًا"، ولو أنّ كلّ "أدواتها" استُحضِرت كما ظهر في الأيام الماضية، فثمّة من اختار التذكير بأهمية "المقاومة" والحديث عن "مخططات العدو"، وهناك من فضّل التمسّك بأحقاد الماضي، للحديث عن "إجرام" هذا الفريق أو "خبث" ذاك، وبينهما ثمّة من ارتأى تحميل مسؤولية كلّ الأزمات لخصومه، ولو كان جزءًا من السلطة منذ أكثر من عشر سنوات.
قد يكون صحيحًا أنّ مثل هذه الحملات قد تكون "سلاحًا ذي حدّين"، لأكثر من اعتبار وسبب. هي بلا شكّ تلعب على "الوتر الحسّاس" لكثيرين، فتدغدغ مشاعرهم، وتعيد المتردّدين والغاضبين إلى صفوف أحزاب والوها، لكنّها في المقابل، قد تدفع كثيرين إلى "النفور" من أحزاب وقوى يبدو أنّها مصرّة على العيش في "كوكب آخر"، في وقت باتت اهتمامات اللبنانيين في مكان آخر تمامًا، ولا شغل لهم مع كلّ شجون السياسة ودهاليزها.
في النتيجة، لا شكّ أنّ انتخابات 2022 لا تشبه غيرها، ولو أنّ معظم القوى السياسية، موالاة ومعارضة ومجتمعًا مدنيًا، تخوضها بالآليات القديمة نفسها. هي انتخابات تأتي بعد حراك شعبي ملهم، وبعد انهيار اقتصادي قاتل، وأزمات متتالية لا تنتهي. وإذا كان الرهان على نتائج "ثورية" صعب المنال، فإنّ هناك من يعتبر أنّ أهمية الاستحقاق قد تكمن في مكان آخر، ولذلك ربما قد تكون "العين" على نسبة الاقتراع قبل أي شيء آخر!.