بَيْنَ الجُمْعَةِ العَظيمَةِ وأَحَدِ القِيَامَةِ فُسْحَةُ انْتِظارٍ لا تُقاسُ بالسَّاعَاتِ ولا بِمَا للزَّمَن مِنْ مَعَايير، بَلْ هي اعْتِلاجٌ في النَّفْسِ بَيْنَ مَا كَانَ للوُعودِ مِنْ أَثَرٍ في إيقَاظِ الانْتِظَاراتِ الَّتي رَقَدَتْ في أَعْمَاقِ الذَّاتِ الِإنْسَانِيَّةِ مُنْذُ كانَ الِإنْسَانُ وكانَ الخَطَأُ وكانَ الوَعْدُ وكانَ التَّرَقُّبُ وكانَتْ كُلُّ الشَّقَاءَاتِ لِتَأْكُلَ مِنَ الِإنْسانِ عُمْرَهُ وعَقْلَهُ وقَلْبَهُ وإيمَانَهُ ومُعْتَقَدَاتِهِ وشُكُوكَهُ وآلامَه وآمَالَه.
لَقَدْ جَاءَتْ كَلِمَاتُ المَسيح في العَدْلِ والرَّحْمَةِ والتَّعْزِيَةِ والحُبِّ اللَّامُتَناهي الَّذي يُسْقِطُ العَدَاوَةَ، كَمَا في الحَيَاةِ والسَّعَادَةِ وعَيْشِ النَّعيم أَبدًا في وَجْهِ الله ونُورِه العَابِق بِمَا هو أَخَّاذٌ، يُنْسيكَ فِعْلَ الوُجُودِ ليَضَعَكَ في الوُجُودِ بالذَّات.
جَاءَتْ هذه الكَلِمَاتُ فَهَرَعَ النَّاسُ خَلْفَها وخَلْفَ قائِلِها وخَلْفَ مَنْ أَطْعَمَهُم وعَلَّمَهُم وهَيَّأَهُم إلى كُلِّ مَا هو تَجَاوُزٌ لِوَاقِعٍ ابْتَلَّ بِعَرَقِ الجَبين وجَفَّ بالمَوْتِ الدَّفين. وإذَا بِهِم
يُصْدَمون بإعْلانِ مُحَاكَمَةِ ابْن الِإنْسانِ هذا، وتَأْخُذُهُم السَّكينَةُ المُرَّةُ حينَ قَضَى الحُكْمُ عَلَيْهِ بالجَلْدِ والمَوْتِ على الصَّليب.
وصُلِبَ ومَات، ودَخَلَتْ مع مَوْتِهِ مَرْحَلَةُ نِزَاعِ جَميعِ الَّذينَ رَأَوْا فيه انْتِصَارًا على المَوْت، وصُورَةُ لَعازارَ في أَعْيُنِهِم خَارِجًا مِنْ بابِ القَبْرِ مَلْفُوفًا بالكَفَن قاهِرًا المَوْتَ بكَلِمَةٍ سَمِعَها من هذا المُعَلِّم الَّذي ماتَ بدَوْرِهِ اليَوْم صارِخًا: “لَقَدْ تَمَّ كُلُّ شَيْء”.
وأُنْزِلَ عَن الصَّليب ودُفنِ، ودَخَلَتِ القَبْرَ مَعَهُ أحْلامُ الحَالمِينَ وتَساؤُلاتُ المُتَسَائلِينَ وتوقٌّعَاتُ المُتَوَقعِّين، مِنْ أَعْلَى سُلْطَة مَدَنَيَّة ودينيّة إلى أَسْفَل الهَرَم مِنَ الجائعِينَ المَنْبوذينَ المُهَمَّشينَ الذَّين ضَيَّعَ عَلَيْهِم القَيِّمونَ دُخُولَ بَاب الحِكْمَة،ِ لأنَّ هؤُلاءِ أقْفَلُوا بابَها فمَا دَخَلُوا ولا ترَكُوا الآخَرينَ يَدْخُلون. كلُّ هؤُلاءِ اسْتَرْجَعُوا كُلَّ مَا وَرَدَ في الكُتُب مع الأنْبيَاءِ عَن ابْن الإِنْسَان ومَسيح الله والعَبْد المَنْبوذ والعِظام اليَابِسة، وذاك الذَّي يَملُكُ على بَيْتِ أبَيه إلى الأبَد ولا يكَونُ لمُلْكِه انْقِضَاء. وتتسرَّدُ الصُّوَرُ خَلْفَ الصُّوَر، والعُيُونُ تَغرَقُ في الأرْض صَمْتًا وحُزْنًا أحْيَانًا، وصُرَاخًا مَخْنُوقًا أحْيَانًا أخْرَى، ناهيكَ عَن العُيون الغَارِقة في الدَّهْشَة والتَّسَاؤُل والشَّكِّ المَقْرون بِيقين آتٍ مِنْ وَعْد خَفِيٍّ هو صَوْتُ ذاك الذَّي إنْ شَاءَ أنْ يكَونَ الأمرُ يكون.
في هذه الفُسْحَةِ مِنَ الزَّمَن القَاتِم،ِ نَرَى شُعَاعًا مِنْ نورٍ وَهَّاج،ٍ جَعَلَنا نَكْسِرُ زَمَنَ الانْتِظارِ ونَبْنيهِ مُجَدَّدًا بالرَّجَاءِ الوَهَّاج الَّذي لا يُخَيِّب، هو نورُ السَّبْتِ الَّذي رَأَى فيه الآبَاءُ الصَّالِحونَ وَجْهَ المَسيح المُخَلِّصِ الذي مَعَهُ وبِهِ تُفْتَحُ أَبْوابُ السَمَاء، فيَدْخُلونَ مَجْدَ الخُلودِ بَعْدَما رَقَدُوا على رَجَاِء القِيَامَةِ الَّتي تَحَقَّقَتْ لَهُمْ بِمَوْتِ المَسيح وقِيَامَتِه.
هذه الفُسْحَةُ هي هي، صورةُ عُمْرِ كلِّ واحِدٍ مِنَّا يَحْيَاهُ مَغْمُوسًا بأَلْفِ لَوْنٍ ولَوْن مِنَ الهَواجِسِ والهُمُوم والتَّساؤُلات والشَّكِّ المَقْرُونِ بِيَقين الإيمَانِ والسَّعْيِ خَلْفَ مَا نَرَاه سَبَبَ سَعَادَتِنا وَقْتَ سَعَادَتُنا هي في ذاك النُّور الَّذي لَمْ نَرَهُ في فُسْحَةِ هذا السَّبْت، فبِتْنا كأَنَّ القَبْرَ لَمَّا يُفْتَحْ بَعْد، وكَأَنَّ المَوْتَ لَمْ يُقْهَر، وكَأَنَّنا مَا زِلْنَا في انْتِظارِ مَجْهُولٍ يُرينَا نورًا مِنْ ظُلْمَةِ وُجُودٍ لَمْ نُدْرِكْ قطُّ مَعْنَاهُ.